والداها اللذان وقفا بجانبها طيلة الشهور الأولى من محنتها، سرعان ما تغيرت عاطفتهما وأيقنا أنها فاشلة اجتماعيا وسيئة التأقلم، ما جعل الأمر مؤلما أكثر. لم تكن تهتم بكمية الخدوش و الرضوض التي تغطي جسمها، ما تفكر به فقط هو كيف ستشرح ما جرى عند دخولها المنزل، كانت تخفي آثار الاعتداء مستعملة مستحضرات التجميل،ثم ترفع من صوت الموسيقى إذا أرادت البكاء حتى لا يسمعها أحد.
لم تستطع التوجه إلى الأساتذة لتقديم شكوى، فذلك سيزيد الطين بلة ولا التماس المساعدة من والديها، لأنهما لا محالة سوف سيصطحبانها إلى طبيب نفسي،حصصه لن تفيد بشيء غير جعلها تصنف خرقاء، بعدما كانت غربية أطوار وعديمة النفع. وكم توسلت إلى الله أن تصاب بداء السرطان بدل مريض آخر يحب الحياة و يتمنى العيش على بساطها، شَعرت حينها بالضياع واليأس و لم تكن ترغب بأكثر من الموت.

كان هذا مقتطفا من قصة فتاة، تعرضت للمضايقات وسوء المعاملة في إحدى مراحلها الدراسية، لا لشيء سوى لأنها تمسكت بمبادئها ورفضت التنازل عنها، فكان مصيرها أن تُستبعد و تُنبذ كليا من طرف أقرانها. والحقيقة أن الكثير من الأطفال والمراهقين يعانون من هذا العنف المعنوي والجسدي، أو ما يسمى بظاهرة "التَّنَمُّر"، في وسط يغيب عنه مفهوم احترام الآخر وتقبل الاختلاف، ويطغى مبدأ "القوي يدمر الضعيف".. فإما أن تُؤذِي أو أن تَتَأَذَّى.
الفرق فقط، أن هذه المراهقة التي قُصَّ جناحاها، تعلمت الزحف و قررت كسر قوقعتها، فالتجأت إلى الكتابة لتسلط الضوء على مشاعرها و على الألم الذي نخر روحها، من خلال رواية "أرجوكم لا تخسروا مني".. هي الكاتبة والناشرة الأمريكية "جودي بلانكو". لم تكن تتخيل يوما، أن الجحيم الذي عاشته بين أروقة المدرسة سيكون سببا في شهرتها، وأن كلماتها الممزوجة ببراءة طفلة وصمود جندي، سَتُتَرجم إلى العديد من اللغات، وسَتُدرس في الجامعات والمعاهد.
بوح "جودي" يضعك وجها لوجه أمام مشكل، تجهله بعض الأوساط وتتجاهله أخرى، فالتنمر ليس لصيقا فقط بالمجتمعات الغربية، كما عهدنا ذلك من خلال المسلسلات والأفلام الأجنبية (الأمريكية منها خصوصا)، بل يتفشى أيضا في العالم العربي وبشكل مخيف، نتيجة لاضطرابات نفسية وسلوكية ناجمة إما عن العنف الأسري أو عن غياب الرقابة الإعلامية، في وقت أصبحت فيه شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي أكبر مروج لأفكار التعصب وممارسة الاضطهاد ضد الآخر. هؤلاء المُتَنَمِّرون ـورغم صغر سنهم- يحتاجون إلى المتابعة والدعم لترويض طاقة هائلة تجتاح صدورهم وتربية نفوسهم على احترام الغير، باعتبارهم أيضا ضحايا هذه الظاهرة، وذلك بدل الانشغال فقط بمن مُورس عليهم العنف ومحاولة إيجاد حل وهمي لمساعدتهم على الاندماج اجتماعيا.

اعترافات "جودي بلانكو" حدثا بحدث ولحظة بلحظة، قد تكون بلا قيمة بالنسبة للكثيرين وقد يجدها آخرون مبالغا فيها، لكنها بدون شك لامست قلوب من عاشوا الغربة داخل فصولهم، من عانوا الوحدة والاستبعاد وأبكوا أنفسهم حتى الرقاد، فقط لكونهم أناسا مختلفين، تُربت على أكتافهم ليس لتقبل الوضع والإذعان للواقع أو حتى الانتقام، بل لجعل الألم وقودا للإبداع و الاستمرار. وكما أشارت في أحد الفصول "عندما يكون المرء ضحية أي نوع من التعسف، يمكنه أن يفعل أحد الأمرين؛ يمكنه تعلم تحويل الألم إلى غاية وإحداث فرق في العالم أو يمكنه السماح له بإخماد النور في داخله. إن اختار الأمر الأخير، يكون قد ضحى بأكثر من طفولته لآلهة الشعبية القساة".
الجميل في الأمر، أن "جودي" عادت إلى مدرستها بعد عشرين سنة، لتقف بكل شجاعة وشموخ أمام زملائها القدامى، وتحدثهم عن نجاحاتها المهنية والتي كان لرعاية أسرتها الصغيرة دور مهم في تحقيقها.. نعم كانت فتاة تحمل بكل ثقل همَّ الانتقال من فصل إلى الآخر دون أن تتعرض للضرب والقذف، وهي اليوم نموذج ملهم و امرة حرة وناضجة بما يكفي لتغلق دفاتر الماضي وتنسى كل ذلك الغضب الذي طاردها طيلة سنوات. صحيح أن نهاية الرواية سعيدة، لكن للأسف، الحظ لا يبتسم لكل المراهقين كما ابتسم لجودي، خصوصا وأنها لقيت دعما أسريا قويا. فالكثير من ضحايا التنمر يلجؤون إلى تعاطي المخدرات وقد يصل الأمر إلى الانتحار هروبا من هذه المعانات.
"أرجوكم لا تسخروا مني" ليست بكبسولات علاجية ولا وصفة طبية للقضاء على معضلة اجتماعية، إنما هي دعوة صادقة لمراجعة أنفسنا ووضع أقوالنا وتصرفاتنا تحت مجهر الرصد، فالكلمات الجارحة التي لا نبالي بها قد تكون رصاصة يستحيل محو أثرها الغائر، ولإعادة النظر في كيفية الحوار والتواصل مع أبنائنا، حتى لا يعيد التاريخ نفسه ونرى فيهم جودي ثانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.