ما لي إلى وصالك يا قدس غيرُ سبيل هاته الكلمات القلائل التي لطالما اعتلج صداها في صدري وبين أضلعي.. التي لطالما جال عبيرها في أغوار روحي وقد تلحّف بستار ورودها وغفا في أحضان أغصانها الغضة، أغصان زيتونها.. التي لطالما نثرت من على جبيني ركام القبور وسراب الدُّجى.. وألقت من عليه بإكسير الأبدية وأقباس من نور الحرية، يتنسمّها، يداعب أهدابها، يناجي فيها سحر نظرات الصمت والخلود والصمود في محجريها وقداسة الحلم الذي لا يفنى!.. هناك حيث يقف على الأعراف.. ما بين ضفاف الجنة وشفا جرف الجحيم.. هناك على أعتاب أقصاكِ!
هناك ما بين أرجاء جبل الزيتون، حيث أرسلتُ روحي سائحةً في ساحة أمجادك و سياحة العاشقين هجرة! روحي التي تلحّفت تجاعيد أرضك في ليلٍ أسير صقيعٍ مُوحشٍ.. تلك التجاعيد التي لكأنها استحالت مرآةً نرسيسيةً لتقاسيم وجوه فلّاحيكِ، حيث صار النهر سرابا.. وما لَكِ لئلّا تكوني أجدر من نرسيس، بخُيَلائه وقد دشّنتِ لنا من الجمال معبدا ما بين شموعه تخرّ نواصينا ساجدينَا، وعلى وقع ألحان موت آلهته تتراقص أرواحنا؟.. حيث أنت الآلهة لا فينوس.. وأنت الفن لا أبولون.. وأنت الخلود لا جالاتيا.. وأنت الحب لا بيغماليون!
هناك كانت ترقب روحي في عتمة الوجود قبة الصخرة، حيث تتناوب خيوط القمر في ضيائها كأنها المد والجزر.. وحيث يعظم جزرُها مدّها طولا فما تدرك الضياءَ إلا نيّفا من الحين.. في لحظات جزْر النور تُخيّل إلى روحي صورة البُراق في شموخه أسيرا، يجول بناظريه باحثا عن فارسه.. ذلك الجندي المجهول الذي سينبعث إلى ملحمة الوجود وسيضع من عليه الأغلال.. ومن على أرضك الاحتلال!
في لحظة المدّ يا قدس تجثو روحي على ركبتيها مناجيةً خصلات النور، وترقب أطلال أقصاكِ تاليةً على مسامعك آية الهوى وقصيدة الخلود في شموخ طرفة بن العبد على أطلال بيت الحبيبة.. ثم تُبايع عرفات تحت شجرة زيتونٍ وتحمل عنهُ "الغصن الأخضر" وقد أفحمها ايمانا بأنها "عظيمة هذه الثورة.. إنها ليست بندقية فلو كانت بندقية لكانت قاطعة طريق ولكنها نبض شاعر وريشة فنان وقلم كاتب ومقبضة جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيها وزوجها".
وها هي الآن تناجي البرغوثي في خلوته مع الظلام وسط أخواتها من الأرواح المتمردة وقد أبلغها بأن" لا تُحَدِّق بِصورةِ وَهْمٍ عَلى شَاطئ النهْرِ.. وَاسْبَح!".. ألفيْتَها بعد هذا تجول بخاطرها في أرض البرتقال الحزين، حيث ما انفكّ الكنفاني يعاتبها في لؤم "أنت تعرف أن الحياة قميئة وسيئة فلماذا تواصل الأمل فيها؟".. ثم تخاطب روح ذاك السماويّ الطريد محمود درويش لتستكمل معه "رحلته الأولى إلى المعنى".. فيحترقان معا!
هناك عندئذ يا قدس على أطلال أقصاكِ قد سَمَت روحي إلى علياء الأبدية وموت العاشقين شهادة!.. ها أنا استحلت جسدا خاويا عاريا من الأنوار والملاحم والألحان وأرسل إليك التحية والسلام من أرضٍ تونسيةٍ ثكلى قد ابْيضّت عيناها من الحزن بعد خُضرتها دهرا.
يا قدس، يا قبلة العابدين ومقبرة العاشقين، يا من تلامست في أغوارها الحضارات وتمازجت فيها على ساحة الوغى معامع الأرواح وملاحم الأقلام، قفي على قبري.. قفي على قبري واذْرُفي من عينيك المياه المقدسة التي تطهر أرواح العابدين.. قفي على قبري واسدلي أغصان الشجون من حَواليْ هذا المعبد الروحي.. قفي على قبري والْثُمي شفاه الموت في شهوة الحبيب العابر.. قفي على قبري وهلّلي لموكب البرزخ المهيب في ثبات الواثِق وشموخ المُنتصِر.. قفي يا قدس على قبري واعزفي نشيد الحرية المقدس على أوتار قلبي الخالدة.. فهناك يوما على جبل الزيتون قد صَلّت روحي!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.