كما أنّ للمعاني ما يُناقضها أو يعاكسها؛ فإنّ للرمزيات ما يضادها أو يُعارضها عادة، ولهذه الأخيرة أن تعلو وتتمدد أحياناً طبقاً لاتجاهات المجتمعات والأمم ونزعاتها ولتفاعلات الوعي الإنساني الجارية؛ علاوة على أي تحولات أو تغيرات قد تُدرَك من واقع الرمز ذاته. ولا تَبلُغ الرمزية ثباتاً مطلقاً أو استقراراً مضموناً على نحو مقطوع به، لأنّ الوعي الجمعي بالرمز يبقى عرضة للتبدل والتغير كلياً أو جزئياً، وفي هذا مجال خصب لصراعات قد تدور حول الرمز أو عليه. ولا تنفك هذه الصراعات عن إدراك ما تحوزه الرموز والرمزيات من أهمية في تشكيل هوية المجموعات أو الأوساط؛ بما في ذلك تعريفها والتعرف عليها من خلال هذه الرموز والرمزيات، وهو ما يطبع بالتالي مواصفات الانتماء إليها أو الإقصاء عنها.
وتمنح بعض التعاليم الدينية، بصفة مقصودة لذاتها و/أو مترتبة على أصل الشعائر والطقوس والآداب المقررة؛ خصوصيات رمزية للطوائف. ويتجلى مثل ذلك بأساليب شتى في نطاقات انتماء متعدّدة لجماعات ومنظمات وأحزاب وتشكيلات مجتمعية، كما في ظاهرة الألوان الحزبية والرايات والشارات والصور وإبراز الرمزيات القيادية ذات الصلة، مثلاً.
إنّ الرموز والرمزيات إذ تساهم في تشكيل الوعي بهويات الجماعات والأنساق البشرية؛ فإنها تحقق بالتالي حاجة متأصلة لتحديد النطاق، فهي تُعين على تقديم إجابات واقعية أو مفتعلة بشأن أسئلة تقليدية من قبيل: من نحن؟ ومن هم؟ بهذا تحضُر الرموز، أو ما تُعد رموزاً، في مساعي الاستيعاب والإقصاء، عبر الفرز النمطي بين "من هم معنا، ومن ليسوا كذلك".
قد يشي الوصم السلبي لمكوِّن معيّن بنزعة صراع على المساحة أو الفضاء الرمزي، أو على حامله أو المُعبر عنه بالأحرى |
تتيح الرموز امتياز تحديد النطاقات وخطوط التماس؛ التي تقوم عادة على تصورات يتلبسها الافتعال وتغترف من القوالب النمطية والأحكام المسبقة. وقد يتفاقم هذا المنحى في اتجاهات من التشنج والشحن والتعبئة والتعالي والاحتقار والكراهية والعنصرية.
يتم بالتالي تعريف "الآخر" من خلال رموز يُراد منها أن تكون دالة عليه، وعندما يجري في سياقات كهذه خوض صراع ضد هذه الرموز فإنه يأتي غالباً بمثابة صراع رمزي مع الجماعة المعنية بها؛ وقد تتخللها محاولات للفتك المعنوي بالجماعة البشرية إياها عبر استهداف رموزها. ولا ينفك الصراع المادي التقليدي بدوره عن التلازُم مع خوض صراع رمزي، ويتيح هذا الأخير، على الأقل، تسويغ الصراع المادي وإذكاءه وشحنه بمقومات التعبئة.
ومن تعبيرات الصراع الرمزي أن يقع وصم الرمز وتشويهه، مثلاً عبر تأويل رمزيته بما ينطوي على إساءة أو بصفة تقضي بإقصائه عن الانتماء إلى النسق الجامع أو حتى المشترك الإنساني، وهو بهذا المعنى إقصاء لمن يرتبطون بالرمز أو يتمظهرون به. يُلحَظ مثل ذلك جلياً في الجدل السلبي الذي تشهده بيئات أوروبية على نحو مطرد في ما يتعلق بالمسلمين، إذ يتخذ من بعض ما تُعد رموزاً موضوعاتِ له عادة، من قبيل قطع قماش مخصوصة لتغطية الرأس أو الوجه؛ أو مئدنة المسجد. من المألوف أن يقع تأويل هذه العناصر بصفة مشوّهة وتنزيل حمولة ثقيلة من التأويلات السلبية عليها فتكون بمثابة مقدمات لطوْر عملي من التعديات أو الإجراءات؛ مثل الحظر القانوني أو الاعتداء المادي أو اللفظي أو التضييق والإقصاء ونحو ذلك.
وقد يشي الوصم السلبي لمكوِّن معيّن بنزعة صراع على المساحة أو الفضاء الرمزي، أو على حامله أو المُعبر عنه بالأحرى. يتضح هذا، مثلاً، في حالة وصم غطاء الرأس الذي ترتديه المسلمات بأنه رمز لمعانٍ كريهة، كأن يقال مثلاً: إنه رمز سياسيّ، أو أيديولوجيّ، أو جنسيّ، أو علامة اضطِّهاد، وغير ذلك. على أنّ ما يُعد نقيض هذا الرمز، أي السفور، قد يُعتَبر بالتالي، في سياقات مخصوصة على الأقل، رمزاً لما يُراد في هذه السردية النمطية أنها معانٍ إيجابية.
وفي الحالة الفرنسية، مثلاً، التي تعلو فيها أيديولوجيا العلمانية، ثمة ما يمنح الانطباع من بعض الخطابات أنّ ستر الشعر (الفولار) يُراد به "الأسلمة" أو علوّ الدين، وما قد يُفهَم، بالتالي، من هذا الخطاب هو أنّ السفور بهذا المعنى من رموز العلمانية وتعبيراتها الظاهرة. جدير بالنظر ما في هذا الخطاب من تعبير عن تصور رمزي لرأس المرأة في الحالتين؛ يكاد يوحي بأنّ الاتجاهات تتمظهر فيها أكثر من الرجل، ولمثل هذا صلة محتملة بموروث تاريخي، من قبيل حكاية الفتاة مارين، رمز الثورة الفرنسية، التي تتجلى في المشهد الرمزي المعبِّر عن الانتصار والتحرر حاسرة الرأس عارية الثدي، كما في الحكاية.
ثم إنّ الوصم السلبي لرموز مخصوصة في سياقات الصراع الرمزي قد ينطوي أيضاً على توجّه لحجب الاعتراف عن ما يُعد رمزاً، وهو ما يقود بشكل ما، عملي أو تصوري، إلى إقصاء مكوِّن معيّن مرتبط بالرمز إياه. وقد يأتي ذلك أمارةً على استهداف أوسع للمكوِّن المجتمعي المعيّن بما يقوم على، أو يشتمل ضمناً على، الفتك بما تُعد رموزاً لصيقة به أو معبِّرة عنه. إنها حالة يُعبَّر عنها أحياناً بأوصاف من قبيل "الاغتيال الثقافي" أو "الاغتيال المعنوي"، لأنها تشتبك مع القيمة المعنوية للمكونات المجتمعية أو الإنسانية وتسعى لتقويضها أو إعادة تعريفها، وهذه من الأدوار المركزية في "حرب الأفكار".
أما الصراع داخل الجماعة الواحدة فقد يتمظهر في شكل صراع على الرمز، أي سعي محموم للاستحواذ المادي أو المعنوي عليه، أو قد يجري خوْض مُزايدات تتذرع بالرمز الذي يرقى في التصورات لأن يحظى بالمرجعية وأن يكون مانحاً للشرعية والحظوة. إنها بمعنى آخر محاولة لاستعارة الرمزية من الرمز وتمثّلها في الحضور ضمن النسق. من المألوف، مثلاً، أن تشهد بعض الأحزاب والجماعات بعد غياب روادها البارزين أو مؤسسيها المتنفذين ظهور منافسات بين مقلدين يحاولون استمداد شرعيتهم القيادية من محاكاة الرمز المؤسس واتِّباعه وتقليده، ويظهر في هذه الأجواء من يتباهَوْن بحفظ أقوال الرمز عن ظهر قلب وترديد شعاراته والتوسع في شرحها والتذرع بها، علاوة على تقاليد التمسّح البصري بالرمز؛ بتعظيم صوره وأصنامه مثلاً. ويجري في التجاذبات الداخلية ضمن النسق، بالتالي، استعمال رمزية المؤسس لإضفاء الشرعية أو نزعها عن بعض الأطراف المتنافسة.
وعادة ما تتلازم أطوار الإصلاح والتجديد، أو التردي والنكوص، مع تجاوز رمزيات سابقة لصالح رمزيات جديدة أو بإحياء رمزيات أسبق لتُزاحِم ما هو قائم، وقد تجري هذه العملية بصفة إرادية مخطط لها، أو بفعل التّآكل الرمزي التدريجي وبانطفاء جذوة رمزيات معينة في الوعي الجمعي، أو تبعاً لإعادة اكتشاف رمزيات خلت من قبل.
إظهار عجز الصنم هو عين الاستهداف لرمزيته الطاغية التي تهيْمن على وَعي مجتمعه المتحلق حوله، وهي رمزية تشكلت أساساً من إدراك المجتمع للصنم لا من الصنم ذاته |
ويتجلى التعبير النمطي عن تجديد الرمزيات بصفة هادئة، مثلاً، في سعي مؤسسة ما إلى تطوير هويتها التصميمية بما في ذلك شعارها "لوغو"، ولكنه قد يقع عبر مخاضات جسيمة وصراعات كما عبرت عن ذلك، مثلاً، التجربة الأوروبية مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، والتي استهدفت ضمناً تقويض الرمزية البابوية والسلطوية الكنسية، ولكنها أنعشت في المقابل رمزية الإنجيل واستقوَت بها في مواجهة سطوة المؤسسة الكنسية وتقاليدها.
كان واضحاً أيضاً أنّ المرحلة التاريخية التي شهدت في بعض أرجاء العالم العربي والإسلامي محاكاةَ أوروبا المتصّورة وضمور الوعي بالهوية المسلمة أو السعي للتنصل منها؛ قد عرفت، ضمن ظواهر عدة، إعادة اكتشاف رمزيات ما قبل العهد الإسلامي وإبرازها، مستفيدة أيضاً من كشوف بعثات آثارية أوروبية لمقتنيات ومعالم تعود إلى تلك العهود البائدة. وقد أتاحت تلك الموجة مبررات للخطاب "الوطني" و"القومي" في زمن دول التجزئة، علاوة على أنّ هذا المنحى بدا خياراً لمخاطبة أوروبا ذاتها أو التماهي المعنوي معها على أساس الاستلاب الحاصل؛ من خارج العباءة الإسلامية التقليدية السابغة. وقد كان واضحاً أنّ ثمة اهتمامات أوروبية بهذا المنحى عبّرت عن ذاتها بالحفاوة بمدنيات ما قبل الإسلام وآثارها ورموزها، وقد بدت هذه أحياناً محاولة من الخارج لإعادة نسج الهوية الرمزية لبعض البلدان والأقاليم.
ظلّ السعي إلى تقويض الرمزية سِمةً أساسية من سمات التدافع البشري بين الأفكار والمعتقدات والمذاهب والتيارات والأمم، فلكل منها مرجعياتها التي تنبثق عنها أو تحتكم إليها، ورمزياتها التي تُعَبِّر عنها أو تَعتدّ بها، بما جعل تقويض الرمزية المُقابلة مسعى لا تُخطئه، عادةً، الجهودُ المضادة والتجاذبات بين الأطراف. ففي البعثات النبوية الداعية إلى الإيمان والتوحيد والحق والعدل والتحرر والاستقامة والارتقاء؛ انصبت وفرة من الجهود المناوئة على مسعى تقويض رمزية النبي ذاته، بعد أن عُرِف ابتداءً في قومه، غالباً، بأنبل الصفات واشتُهر بأكرم الشمائل لأنهم خبروا كُنهَه، فقد عايشهم مباشرة وخالطَهم طويلاً وظل بينهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ولا ريب في أنّ المحاولات المحمومة الرامية لتقويض رمزية النبي، بصنوف التشويه والتحريض، هي مدخل تقليدي لمقصد نزع الشرعية عن قَوْله والصدّ عن دعوته وعزله عن مجتمعه.
وكانت الجهود المُناوئة تمتدّ إلى تقويض ما تبدو رمزيات في الدعوة ذاتها، بإعادة تأويلِها وتشويه مقاصدها والتخويف من عواقبها ووضعها على النقيض من نظام رمزي يحتفي به النطاق المجتمعي بتقاليده وأعرافه وتصوّراته، علاوة على إظهار تَعارُضِه مع مصالح قائمة أو مُتوهّمة. وإذ يُجسِّد المَعبود من دون الله تعالى ذروةَ الرمزية الباطلة، في سياق الدعوات النبوية والرسالات؛ فإنّ تقويض رمزيته هو مفتاح جوهري من مفاتيح الهداية أو إقامة الحجة على الأقوام الضالة، وهذا التقويض هو من مسالك التوعية التي تسعى إلى إيقاظ الأبصار وتنبيه الغافلين وتجلية الحقائق وإنارة الظلمات. إنّ إظهار عجز الصنم هو عين الاستهداف لرمزيته الطاغية التي تهيْمن على وَعي مجتمعه المتحلق حوله، وهي رمزية تشكلت أساساً من إدراك المجتمع للصنم لا من الصنم ذاته؛ بما يُحيلُه بعد تجريده من الرمزية المُحمّلة عليه إلى مجرّد مادة مُسخّرة للإنسانِ وقابلة للتشكيل والتحطيم؛ بعد أن سخّر الإنسان نفسه وحياته لها وقرّب إليها القرابين ولاذ بها من ضغوط الواقع وهواجس الآتي.
لحظات التآمر على الفتك الفيزيائي بالأنبياء والمرسلين تأتي بعد انهيار مساعي الفتك المعنوي بدعواتهم ورسالاتهم على عتبة العجز والإخفاق |
جدير بالنظر أنّ طغاة الحاضر لا يجرؤون على منح شعوبهم أو مجتمعاتهم أو أتباعهم صوراً واقعية من حياتهم اليومية بكل تفاصيلها، لأنها كفيلة بتقويض الهالة الرمزية التي تُسبِغها عليهم منظومة دعائية تتخيّر تجميد لحظات مدروسة بعناية من إطلالاتهم وتقديمها للجماهير دون سواها من اللحظات والمَشاهِد؛ مع إضفاء معالجات تحسينية فائقة عليها. وليس بوسع أولئك الذين أُشربوا في قلوبهم الزعيمَ بجهلهم وسذاجتهم وعبوديتهم؛ أن يتصوروا أنّ زعيمهم هذا يغفو ويغالبه النعاس ويضطر إلى الاختلاء في دورات المياه، وأنه يتضعضع في عيادة الأسنان أو يخفق قلبه خشية ما تحمله له قابلات الأيام من مصائر بائسة، ولعل فرائصه ترتعد من رؤى منامية تطارده في رقاده.
وفي بعض المعجزات التي اختص بها الله تعالى الأنبياء الكرام؛ ما ينطوي على تجاوُز قدرات مخصوصة اشتهرت بها أقوامهم، وقد حازت هذه القدرات، في الأساس، هالةَ التقدير المجتمعي وربما استعملتها دعاية التضليل والطغيان أداة لها فباتت سلاحاً من أسلحتها ورمزاً من رموزها. وقد جاءت هذه المعجزات بمثابة مُخاطَبة مجتمعية من داخل منطقها الرمزي أيضاً، فالقرآن الكريم أقام الحجة على العرب وأعجز فصاحتهم وبيانهم، أما معجزة الإحياء وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فأقامت الحجة على بني إسرائيل الذين اشتهروا زمنَ عيسى عليه السلام بالطبابة. وقد وقع إبطال سطوة السحر والسحَرة في النظام الفرعوني بموقف "يوم الزينة"، الذي برز فيه موسى عليه السلام بعصاه ويده مؤيّداً من الله تعالى، وكان من ذروة بزوغ الحق في هذا الموقف العظيم أن خرّ السحَرةُ سجّداً معلنين إيمانهم "بربِّ هارون وموسى" غير آبهين بفرعونَ وملَئِه.
إنها لحظة انهيار نظام رمزي بحياله، أُعيدَ فيها تعريف الانقياد والقوة والأذى والبطش، كما أخبر القرآن الكريم عن ذلك في المرافعات الخالدة من ذلك اليوم المفصلي. إنّ اندفاع النظام الفرعوني من السطوة المعنوية إلى الفتك الجماعي المباشر بخصومه الذين أظهروا عجزه وأقاموا عليه الحجة على الملأ؛ هو في حقيقته برهان مؤكّد على تعَطُّل النظام الرمزي السابق عن الاشتغال، وهي لحظة حاسمة عرفها تاريخ النبوات والرسالات بكيفيات متعددة؛ ومنها اللجوء إلى الفتك بإبراهيم عليه السلام بالنار بعد أن أعجز قومه بالحجة العقلية وأظهر تهافت النظام الرمزي الذي يخضع قومه لطقوسه. إنّ لحظة "دار الندوة" في مكة، التي وقع فيها التّآمر على اغتيال الرّسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم؛ هي في حقيقتها كناية عن إخفاق الأساليب والوسائل السابقة جميعاً التي استُعملت في الصد عن سبيل الله، وهي تكافئ لحظات التآمر على الفتك الفيزيائي بالأنبياء والمرسلين من قبل؛ بعد انهيار مساعي الفتك المعنوي بدعواتهم ورسالاتهم على عتبة العجز والإخفاق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.