على مر العصور عرفت البشرية الكثير من الأمور، بين تقدم هنا، وانحطاط هناك تداركته نهضة فكرية حينا، وثورة اقتصادية حينا آخر قادتها نخب الأمم، لكن أمتنا الإسلامية وعلى الرغم من كونها تملك دستورا سماويا منظِّما لها في دينها ودنياها أبت إلا أن تغرق في التيه.
لو حاول المرء منا جرد خيبات المسلمين لما اتسع صدره لها ولأصابه الجنون وهو يرى حقارة ما يجري من حوله، وكيف تعض الدول في بعضها البعض ضاربة بعرض الحائط كل الفضائل التي أوصانا بها ديننا الحنيف؟ ما يفسح لي المجال لأتساءل أحيانا عن سبب كل هذا الانحطاط، فأرى أن المشهد العام ما هو إلا صورة مكبرة لمجتمعات مصغرة غارقة في الفساد وضائعة بين سفاسف الأمور، وأرى أن كل فعل في عمقه ما هو إلا سلوك حيواني متجدِّر في أعماق النفوس، وأن مفهوم التربية صار عصيا حتى على الإدراك كمفهوم لغوي واضح، وصار التناسل عند البشر ليس بأشرف منه عند القرود لأنه ما أنتج لنا إلا مخلوقات مشوهة لا فائدة منها.
إننا وعلى مر العصور لم نَبْنِ جيلا قويا يحمل في قلبه همَّ الأمة، لكننا ربينا مخلوقات استهلاكية مسلوبة الإرادة، ونحن في عميق أنفسنا نعتقد أننا نفعل شيئا عظيما، فاليوم وأمام كل هذا الجهل الذي تعيشه المجتمعات العربية من الخليج إلى المحيط لا يسعني إلا أن أقول: لقد أخطأ داروين عندما قال إن أصل الإنسان قرد، لكنه ما ابتعد كثيرا لأننا عشنا حتى رأينا ميلاد جيل جديد من القرود ذات الأصل الآدمي.
فلا عجب إن وصلنا إلى ما وصلنا إليه ونحن لا نعيش إلا لذواتنا، لأن هذه حقيقتنا ورفاهيتنا هي كل ما نصبوا إليه، أما تلك الأبواق التي تصدح هنا وهناك لتملأ الدنيا ضجيجا وهي تحمل شعارات لنصرة فلسطين أحيانا وغيرها أحيانا أخرى، لا تعلو على أن تكون عجعجة بلا طحين، وأكثر الشاجبين والمندّدين ما هو إلا جبان سيولد بقوقعته لو تعلق الأمر بأكثر من ذلك، يكفيك أن تعلم أنه ما قدم شيئا لنفسه حتى يكون بوسعه تقديم شيء لمجتمعه.
إننا في هذه الأيام بحاجة إلى بناء العقل العربي بناء فكريا متينا يمكّنه من معرفة ما يحاك من خلفه وهو في غفلة من أمره، وذلك لن يكون إلا إذا اشتغل كل منا على نفسه ليقوّم فيها مواقع الخلل ويصلح بها مواطن الضعف وذلك لن يتأتى إلا إذا عرف المرء منا الحق من الباطل، فيتبع الأول ويتجنب الثاني حتى وإن تعارض ذلك مع مصالحه، وفهِم عميق الفهم أن القراءة هي السبيل الوحيد للنهوض بالأمة، دون أن نغفل أن هذه الأخيرة في حد ذاتها قد تكون نقمة علينا وسبيلا إلى سلب عقولنا إن لم نكن نجيد فن الانتقاء، فليس كل كتاب يستحق القراءة ولا كل كاتب همه النصيحة والإفادة.
إن النهضة لا محالة آتية لأن ذاك وعد الله ونحن لا بد مغادرون لأن هذه سنة الحياة، لذلك سيكون من الأفضل لنا أن نصرف أيامنا وسنواتنا فيما يفيدنا ويفيد أمتنا، وألا نتهاون للحظة واحدة في فعل أي شيء لأجل النهوض بها مهما بدا ذلك بسيطا، فلو صلح المواطن صلحت معه المؤسسات، ولو صلحت المؤسسات صلحت معها الدول، ولو صلحت الدول صلحت الأمة فصار انتصارها مجرد مسألة وقت، فالإنسان هو لبنة المجتمع، وبناؤه أهم بآلاف المرات من تشييد الملاعب والمسارح والعمارات وصرف الأموال في التفاهات بدل إقامة المدارس والمكتبات.
فلو غصنا في حياة الشباب العربي لوجدناه على العموم يقضي يومه بين الأكل والنوم والبحث عن التسلية؛ إما بمشاهدة الأفلام أو المباريات وإقامة السهرات والليالي الماجنة، وأن الاستقامة عنده ما هي إلا خضوع لظرف مادي فرضه عليه الزمن وليس مبدأ ثابتا لا حياد عنه مهما كانت الظروف، فتجده يطيل لحيته ولا يغادر مسجده وهو معدم لا يملك قوت يومه، لكنه وما إن تتوفر له بعض الدريهمات حتى ينقلب على عقبيه مشخّصا أحد أوجه الطغيان الذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى في قصة الرجلين في سورة الكهف، فلو أخذنا العبرة من آيات الله لكان حالنا غير الحال، ولما آلت أوطاننا إلى هذا المآل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.