الأصل في الخطاب الإسلامي أنه خطاب جامع وليس خطابا إقصائيا؛ لأنه يفترض أنه مستمد من القرآن الكريم، والقرآن الكريم قدم خطابا جامعا بدليل أن الله قال عن نفسه في هذا الكتاب أنه رب العالمين، وقال عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الكتاب أنه رحمة للعالمين، أضف إلى ذلك آيات كثيرة تخاطب الكفار كقوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، وآيات أخرى تخاطب أهل الكتاب كقوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا… "، وآيات أخرى تخاطب العصاة المسرفين في المعصية كقوله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ"، وسورة أخرى تتحدث مع وعن المنافقين.. فهذا كله يثبت أن القرآن ينفتح على الجميع ويحاور الجميع، مع أن القرآن الكريم هو مرجعية ملزمة للمسلمين فقط، فلماذا يخاطب الآخر؟
إن القرآن يخاطب الجميع ليفهم أتباع القرآن أنهم يجب أن يخاطبوا الجميع ويحاوروا الجميع، كما خاطب القرآن الكريم الجميع وحاور الجميع بلغة مهذبة وحجة بالغة، وهكذا وجب على أتباع هذا القرآن أن يخاطبوا الجميع ويحاوروهم بلغة القرآن وأدبه وحجته البالغة..
القرآن يأمرك أن تكون علاقتك بالآخر -إذا لم يكن محاربا- قائمة على الدعوة، وهذه الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن لا يكون الداعي فظا غليظ القلب، وعليه فالداعي إلى الله وإلى كتابه يخاطب الجميع بالأدب والاحترام دون سب أو شتم؛ لأن القرآن يقول: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ..".
أما إن كان هذا الآخر محاربا فالرد الطبيعي هو الدفاع عن النفس لدفع الظلم ورفعه من خلال الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين في حال تعرضهم للاعتداء والظلم، ووضع لهم ضوابط أخلاقية صارمة، حيث يمنع على المجاهد أن يقطع شجرة أو أن يقتل طفلا أو أن يقتل امرأة أو شيخا أو عابدا يعبُد غير الله في صومعته، أو أن يمثِّل بالمقتولين بحجة أنه مجاهد، فكل ما سبق ذكره ممنوع على المجاهدين.
وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا نفتح قنوات الحوار مع الآخر غير المحارب كما فعل القرآن الكريم؟ ولماذا يَعُدُّ البعض هذا الحوار تمييعا للدين رغم أن القرآن عرض نموذجا للحوار مع كافر في سورة الكهف، ونموذجا آخر في حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر، ونموذجا آخر في حوار نوح مع ولده الكافر، ونموذجا آخر في حوار الله -من قبل- مع إبليس الذي أقسم بجلال الله "لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"؟
لماذا يرفض البعض دعوات التجميع بين المسلمين من مختلف الأطياف الفكرية الإسلامية منها والمدنية؛ مع أن الله قال لنا: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا"، وكلمة جميعا تثبت أن الاجتماع ممكن، فالله لا يأمر عباده بما هو ليس ممكنا "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"؟ ألا يوجد بين الناس جميعا قواسم مشتركة؟ كيف لا! والله تعالى يثبت أن بين المسلمين وأهل الكتاب قاسما مشتركا "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ".. أفلا يكون بين المسلمين أنفسهم قواسم مشتركة؟ ألا تعد الشهادتان؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قاسما مشتركا جامعا يبنى عليه؟
الخطاب الإسلامي الجامع لا تقبله فئة من أبناء التيارات الإسلامية المختلفة نتيجة الخلط بين الآخر المحارب وغير المحارب، ونتيجة الخلط بين مقاصد الشريعة الثابتة وآليات العمل بها المتغيرة بتغير الزمان والمكان، ونتيجة التعامل مع النصوص بمفهوم حرفي لا بمفهوم مقاصدي، الأمر الذي يوجب علينا ضرورة إعادة النظر في تعاطينا مع الأمور؛ حتى نحفظ ديننا وأوطاننا بتوفيق الله أولا وأخيرا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.