شعار قسم مدونات

القدس قضية وجود.. لا صراع حدود!

Blogs- فلسطين

ليس في الوقت متسع وأحداث هذه الأيام تَنوشني، وضُعف وتخادل وتَشَرذم الأُمَّة الإسلامية حَوْلي جِيئَة وذهاب، تقذف في قلبي اليأس تارة، فَتُحَدِّثُنِي دقاته بأن الحياة دقائق وثواني، لكن الأمل في غَدٍ مُشرق عنواني، خصوصا ونحن نعتقد جازمين أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفض الدين الإسلامي، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، بنص القرآن الكريم، قال تعالى "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".

 
القدس قضية عربية فلسطينية إسلامية، القدس عاصمة أبدية للدولة الفلسطينية من البحر إلى النهر، القدس قضية هَرِمَت في أروقة المحاكم الدولية، لكن حان الوقت للقطع الكلي مع المرافعات الخشبية، والتأسيس لِلُغَة مُرافعة أكثر جدية وواقعية، مبنية على أسس عقائدية، لا قومية ولا تاريخية ولا جغرافية، لغة القانون المنصف، لغة المحاكم العادلة، لغة المحامين الأشاوس الذين يتقنون قراءة الماضي من خلال التاريخ، والحاضر طبقا لمجريات الأحداث، والمستقبل في الإخلاص والصدق والإيمان بالقضية وبعدالتها، فيكون المَقام مقَامهم، والحديث حديثهم، وهم بالمرافعة خبراء، وعلى القضية أُمَنَاء، وللشعوب الإسلامية كافة سُفَراء، ومن النار عُتَقاء، وعند الله شُهَداء، وبالجَنَّة سُعَداء.
 
إن اختزال القضية الفلسطينية في زاوية جغرافية محددة هو تقزيم مفضوح للقضية وتسطيح مذموم في التفكير، لأن ذلك يحصر الصراع في نطاق ضيق جدا، فيصبح الصراع صِراعا على الحُدود، بَل القضية قضية وُجود، وبما أن الدفاع عن القدس الشريف مسؤولية الجميع، لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما أنه بيت المقدس، ومدينة السلام، فلا يمكن اختزالها في حراس البيت أبناء فلسطين، لأنهم أَهْلنَا وإخواننا وَدَمهُم يجري في عروقنا، وإلاَّ فإننا نكون بذلك شركاء رئيسيين في مَسْخْ القضية وبيعها للخصوم، أمَّا إذا كُنَّا جَادِّينْ وصادقين في الدفاع عن القدس، فيجب علينا الإمساك بملف القضية بكيفية صحيحة، حتى نستطيع أن نُلِم بالوقائع على نحو صحيح، لِكَيْ يصح منَّا إنزال صحيح القانون على صحيح الواقع؛ عندئذ ندرك الحل، بمعنى أدق القيد والوصف، الصفة، المصلحة والاختصاص، خطوات فاصلة وحاسمة في كل قضية. ، بناءً على هذا كله، نجد أنفسنا، إذن، وجها لوجه أمام سؤال طويل عريض يطرح نفسه بقوة: ما هو التوصيف الصحيح لقضية القدس؟

            

تم التخطيط والتآمر على القدس من كل حدب وصوب، فهناك من جاد بالمال وهناك من سلح، وهناك من وفر الغطاء السياسي والحقوقي، إلا أنهم لم يقدّروا العقيدة الإسلامية حق قدرها
تم التخطيط والتآمر على القدس من كل حدب وصوب، فهناك من جاد بالمال وهناك من سلح، وهناك من وفر الغطاء السياسي والحقوقي، إلا أنهم لم يقدّروا العقيدة الإسلامية حق قدرها
  

لو قمنا بِجَرْد دقيق لشواهد هذا التوصيف نجد أولاً بأن الكيان المعتدي اسمه دولة إسرائيل، وإسرائيل يعني نبي الله يعقوب، ثانيا يتخذون لأنفسهم شعار نجمة داوود عليه السلام، وداود نَبِيّ الله كذلك، والنجمة تمثل قاعدة الهيكل الذي من أجله يسعون ويتأمرن، والهيكل هيكل سيدنا سليمان نَبِيّ الله عليه السلام، إذا فَبِقلِيل من الذكاء وبعض من المنطق وشيء من الفهم، نستنتج أن تصورهم للقضية تصور عقائدي لا قومي ولا جغرافي ولا تاريخي.
    
بعد دراسات دقيقة للقضية الفلسطينية، نصطدم بكم هائل من المعطيات المغلوطة الغامضة وغير المنطقية، بالإضافة إلى تنازلات خطيرة، في مجملها كانت تخدم الطرف الآخر بكيفية واضحة، كلما تقدمت المفاوضات زادت التنازلات، تحت مسميات مختلفة ورنانة، كالأرض مقابل السلام مثلاً، لكن الحقيقة الدقيقة أنه لا أرض حُررت، ولا سلام تحقق، بل كل ما تحقق على أرض الواقع هو التحول التدريجي المدروس، من المطالبة بتحرير كل الأراضي الفلسطينية المغتصبة، إلى التفاوض على أقل من عِشْرِين في المائة، ثم تحول الخطاب من إزالة للكيان الصهيوني، إلى إزالة أثار العدوان، ثم تحول بقدرة قادر من إزالة آثار العدوان، إلى الشرعية الدولية، ثم تأتي مرحلة خطاب التطبيع والطمس والمسخ والإفساد والتشويه والتشويش على العقول.
   
كل هذا وغيره يُحَتم علينا التنبيه والتذكير ببعض الإشارات التاريخية الهامة، فالقبول باتفاقية تشمل حق إسرائيل في الوجود يشمل، ضِمنيا، الاعتراف بحدود أمنة لإسرائيل، بمعنى أدق المطالبة بالأراضي التي احتلت بعد 5 /6 /1967 ومجموع هذه الأراضي، عوض المطالبة بـ22 في المائة من مجموع مساحة الدولة الفلسطينية، إذ كيف لنا أن نشرح للأجيال الصاعدة هذه المعادلة غير المنطقية، كيف لنا أن نبرر لهم وللتاريخ أن الحق حقنا والأرض أرضنا ونحن من سلَّمناه طواعية لعدونا، وبعد ذلك أصبحنا نطالب باثنين وعشرين في المائة فقط من مجموع الحق.

 

كيف لنا الإقناع والاقتناع بهذا الواقع المؤلم ونحن أمة الإسلام وأمة القرآن، والله عز وجل أخبرنا في سورة البقرة، عن التكوين الفكري والعقلي والمنطقي لبني إسرائيل، وبراعتهم في التفاوض العقيم، والمماطلة والمراوغة وتسخير كل شيء من أجل تحيد الحوار عن مكانه والكلام عن موضعه، وتركيز التفاوض على فرعيات ليست لها أي علاقة بالقضية الرئيسية المتنازع عليها، لخلط الأوراق، وتشتيت القضية، وخلق جو دائم من العشوائية والفوضى واليأس في صفوف المطالبين بالحق، لتصفيته مع الوقت وطمس معالمه، حتى تصبح القضية الرئيسية بدون أي قيمة عند المطالبين بها. قال الله تعالى "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ".

      

من أجل إقامة دولة إسرائيل على أرض عربية إسلامية يجب استعمار فلسطين، ومن أجل اغتصاب فلسطين، يجب إضعاف الأمة عقائديا وفكريا، بعد ذلك يُصبح القُدس الشريف عاصمة إسرائيل
من أجل إقامة دولة إسرائيل على أرض عربية إسلامية يجب استعمار فلسطين، ومن أجل اغتصاب فلسطين، يجب إضعاف الأمة عقائديا وفكريا، بعد ذلك يُصبح القُدس الشريف عاصمة إسرائيل
 

بعد تدبر هذه الآيات الكريمات نجد أن هذا الحوار الطويل عن البقرة بين اليهود والله سبحانه وتعالى عن طريق موسى عليه السلام ليس هو القضية المطروحة على النزاع أصلاً، بل إن أصل القضية هو عملية القَتْل، وهدفها هو معرفة القاتل، إلاَّ أن التكوين الفكري والعقلي والمنطقي لبني إسرائيل كان حاضرًا بقوة حتى مع رب الأرباب، فجادَلوا الله عز وجل وخاصموا سيدَنا موسى عليه السلام حتى يستطيعوا الإفلات من العقاب والتملص من الجريمة النكراء حسب علمهم، لكن علم الله ومشيئته سبحانه وتعالى عمَّا يصفون أقوى وأعظم. 
 
إن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ليس هو الهدف الحقيقي الذي يسعون وراءه، بل هو مرحلة فاصلة من مراحل المخطط الصهيوني، فمن أجل إقامة دولة إسرائيل على أرض عربية إسلامية يجب استعمار فلسطين، ومن أجل اغتصاب فلسطين، يجب إضعاف الأمة عقائدِيا وفكرِيا، بعد ذلك يُصبح القُدس الشريف عاصمة إسرائيل لتسهيل هدمه وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه.
 
لقد تَم التخطيط والتآمر على القدس من كل حدب وصوب، فهناك من جادَ بالمال وهناك من سَلَّح، وهناك من تَبنَّى، وهناك من وفر الغطاء السياسي والحقوقي، وهناك من قَصَّر، إلا أنهم لم يقدّروا العقيدة الإسلامية حق قدرها، ولم يستوعبوا القوة الحقيقية للإنسان المسلم، ومدى ارتباطه بعقيدته، وكيف أنه قادر على تجديد فكره وقوته وقدراته عند صدقه مع ربه، وهذا ما كان يخلق لهم عنصر المفاجأة لمائة عام.
 
إن الإنسان المسلم المؤمن المُوَحٍّد لله يَعْتقِد اعتقادا راسخاً بِأن الأمور كلها لله تعالى، وأنه سبحانه، كُلّ ماَ أراد فِعله واقْتَضت حكمته فَعَلَه، مع قطع الالتفاف إلى غير الله، كما أنه يؤمن يقينًا بأن الله عز وجل جعل أسبابا حقيقية في هذه الحياة يُوجِد بها كل شيء، إلاَّ أنّ المؤمن يتعامل مع هذه الأسباب بِيَدِه فقط، دون أن يعلق قلبه بها، فيكون بذلك قد قطع الالتفاف إليها بقلبه، تَدْخل في هذه الأسباب والأشياء أفعال جميع المخلوقات، من المعاصي والكفر والعُدوان وغير ذلك، بَلْ حتى إبليس وغيره من الطواغيت والجبابرة. ولتبسيط الفكرة أكثر نقول إن أفعال العِبَاد، حتى لو كانت فِعْلا لهم وكَسْبا لهم، هم المعتدون، لكنها أفعال مَفعولة لله، مخلوقة لله، بما خلق الله في العِباد من القدرة والقوة والإرادة، فبذلك تكون أفعالهم فِعلا لَهم مفعولة ومَخْلُوقَة لله جَلَّ جَلاله، فلا يخرج عن مخلوقات ومُلْكِ وسُلْطان الله تعالى شيء، فالله هو الخالق العام وما سواه مخلوق، إلا أن أفعال المؤمنين الموحدين تدخل تحت السلطة الخاصة، وغيرهم، كأمثال إبليس وأزلامه، تدخل تحت السلطة العامة لله عز وجل، وهذا ما يسمى باب القضاء والقدر بالإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فهذه هي عقيدتنا التي عقدنا عليها قلوبنا وعقولنا تخبرنا بأن الله تبارك وتعالى لن يخلف وعده؛ ومهما طال الليل لا بد أن ينجلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.