ابتهج الفلسطينيون حين صوتت 128 دولة لصالح حق الفلسطينيين في القدس في الأمم المتحدة، ومن ضمن الذين أعطونا أصواتهم جميع الدول العربية بلا استثناء، فليس من بينها متغيب أو ممتنع أو معارض للقرار، إنها حقا صورة مشرقة لالتفاف الأمة العربية حول القدس والقضية الفلسطينية، ولكنْ مهلا؛ القرار في الأمم المتحدة غير ملزم، وخاصة إذا كان ضد الولايات المتحدة الأمريكية، والوحدة العربية لم تزحزح "إسرائيل" شبرا واحدا خارج حدود القدس، بشطريها الشرقي والغربي، وإن كنا نعتبر القدس موحدة وعاصمة لوطننا الفلسطيني من بحره الى نهره.
لا أدري كم سننتظر حتى تبدأ تسريبات وخفايا ما قبل تصويت العرب في الأمم المتحدة بخصوص القدس، لا بد أن كشف الحقائق سيضفي بعض القتامة أو الكثير منها على الصورة المشرقة لوحدة الأمة العربية، وأنا على يقين من أن أكثر من نصف الدول العربية، وخاصة الحليفة منها -إن صح التعبير- للولايات المتحدة الأمريكية تقدمت باعتذار مسبق لترمب على جرأتها وتحديها لسياسته، وقد يعذرهم ترمب لأن عدم تظاهرهم بنصرة القدس سيهز عروشهم وسيعجّل بربيع عربي جديد يطيح ببعض الأنظمة التي ارتمت في أحضان الولايات المتحدة الامريكية وربيبتها "إسرائيل"، تلك الدول التي أشار إليها رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقال إنها أصبحت حليفة له وتكاد تجهر بتحالفها معه، بل إنها تمهّد الطريق وتعبث بوعي الجماهير العربية للوصول إلى ذلك الهدف غير النبيل.
وكدليل على قتامة المشهد خلف الكواليس، قيل إن ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، يمارس ضغوطا هائلة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس حتى لا يصعّد ضد قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشأن القدس أو إن هي طورت علاقاتها مع تركيا أو أشادت بما يقوله الرئيس التركي أردوغان. وبالتأكيد هناك توصيات أشد في ما يتعلق بعلاقة السلطة مع قطر وأخرى لرفع العتب تتعلق بإيران.
ليست الإمارات وحدها من تمارس الضغط على الرئيس عباس، بل قيل إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في آخر زيارة للرئيس الفلسطيني إلى السعودية، استخدم معه ما يسمى "الدبلوماسية الناعمة" للموافقة على صفقة القرن الخاصة بترمب. وحسب محمد بن سلمان فإن صفقة القرن ستكون جيدة وإن بدت سيئة في ظاهرها، وكأنه يريد القول "عسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، حتى لو كان ذلك الشيء هو التنازل عن القدس وعن غالبية الضفة الغربية والقبول بسيناء كوطن بديل عن فلسطين.
ونحن على يقين بأنه لا يمكن لأي فلسطيني الموافقة على أي تنازلات جديدة، ولا يوجد قائد فلسطيني لديه الجرأة الآن لتقديم المزيد من التنازلات، بل على العكس هناك توجه فلسطيني نحو التنصل من اتفاقية أوسلو وسحب الاعتراف بشرعية الاحتلال والعودة إلى ما قبل اتفاقية أوسلو أو حتى إعلان الجزائر عام 88، الذي كان فيه أول قبول لمنظمة التحرير الفلسطينية بحل الدولتين على أساس القرارات الدولية غير الشرعية.
أعتقد أننا كفلسطينيين على وشك الدخول في مرحلة سياسية صعبة جدا، حتى لو لم ينفذ ترمب تهديداته ويقطع المساعدات المالية عن السلطة باعتبارها صاحبة مشروع القرار في الأمم المتحدة؛ إلا أن العقوبات ستفرض علينا ممن صوتوا معنا من الأنظمة العربية ومن دولة الاحتلال "إسرائيل"، إذ من المتوقع أن يتم تضييق الخناق على الرئيس محمود عباس بصورة مشابهة لما حدث مع الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ستتوقف المساعدات السعودية والإماراتية للسلطة إن لم يرضخ الرئيس لـ"نصائحهم"، دولة الاحتلال قد تحرم -ولو مؤقتا- السلطة الفلسطينية من أموالها التي تتم جبايتها من الضرائب، وستكون حركة القيادة الفلسطينية للمنظمة وللسلطة محدودة جدا، وقد تكون ممنوعة لبعض الشخصيات التي صدرت عنها تصريحات قاسية ضد أمريكا والمحتل الإسرائيلي، وستعمل الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة العربية على فرض انتخابات عاجلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكنّ هذا لا يعني أن يرضخ الشعب الفلسطيني وقيادته لتلك الضغوط، وربما يدفع الفلسطينيين إلى مصالحة حقيقية ووحدة حقيقية لمواجهة الظروف القاسية غير المسبوقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.