شعار قسم مدونات

يوميات تمثال

BLOGS تمثال عين الفوارة

العالم ينقسم، ويتحد، يعلن الحرب، ويعلن السلام، يغضب، يهدأ، يموت البشر، ويولد غيرهم، شتاء يذهب وصيف يجيء، مؤتمرات قمة لا تقدم إلا الكلام، وتحالفات لا تؤدي إلا للدماء.. ولكني ما زلت كما أنا، تمثال نحته فرانسيس، ويطلقون علي "منحوتة عين الفوارة". كم تمنيت أن أتحرك من هذه الساحة، لأبحث عن قطعة قماش أستر بها صدري المكشوف منذ أن صنعني فرانسيس سان فيدال عام 1898، وهو نحات فرنسي إيطالي.. لأنني أحزن عندما أرى وجوهًا غاضبة حد الانفجار من كوني تمثال فاجر، أو منحوتة عارية!

 

يقولون أن الله غاضب من وجودي، ويريدون تحطيمي، وهؤلاء يطرحون لدي تساؤل مستمر: لو أن الله غاضب من وجودي، لماذا لا يدمرني ويجعلني عبرة لتماثيل العالم؟! الله قادر على كل شيء، ولا يحتاج أبدًا إلى هؤلاء؟

 

أريد الذهاب إلى فرانسيس سان فيدال في قبره، لأقرأ على روحه الفاتحة، وأحكي له عن الذي جرى، وعن حالة الغضب العارمة من وجودي.. سأقول له حينها "عزيزي فرانسيس، لماذا لم تدافع عني عندما تضررت من الحاكم العسكري الفرنسي، الذي أُعجب بي عندما رآني في متحف اللوفر، فقرر نقلي إلى سطيف في الجزائر، كان عليك أن تدافع عني، أنا كنت أريد البقاء في فرنسا، أو إيطاليا، أو ألمانيا، أو أي بلد لن تهتم بوجودي إلا عند التقاط الصور التذكارية!

 

ينظر لي أحدهم بغضب شديد، ويبصق على وجهي، ثم يقول "أستغفر الله، أعوذ بالله منك" ولا أظن أن الملائكة اعتبرت أن ما فعله سيدخله الجنة.. ما لهؤلاء يا فرانسيس؟

على كل حال أنا لن ألومك، فأنت لم تكن تعلم بما سيجرى مستقبلًا.. أريد أن أخبرك أن الناس في مدينة سطيف يعرفوني جيدًا، ولم يروا مني أي شيء سيء، وأنا لم أزعجهم أبدًا، على العكس، الأحباب يلتقون في ساحتي، والعواجيز يجلسون في هذا الميدان ليستريحوا قليلًا، والأطفال يحبون وجودي ويلعبون بجواري، ولكن يبقى السؤال المطروح يا فرانسيس: لماذا يكرهني بعض الناس جدًا؟ حتى أن بعضهم لديه استعداد بقتل نفسه في مقابل القضاء على وجودي؟!

 

لا تقنعني يا فرانسيس أن الله متضرر من وجودي كما يدعي البعض، أو أنني أحارب الدين الإسلامي. ثم إن ما يحدث في العالم العربي، أهم من مسألة وجودي أو عدمها.. الناس يموتون في اليمن بأيادي عربية سعودية، وأمريكا تقول أن القدس عاصمة لإسرائيل، وفي مصر اعتقالات تخطت 60 ألف، وفي سوريا حروب لا تنته، وفي ليبيا ييبعون العبيد في الأسواق، ولا أدري كيف مع كل هذا يهتم أحدهم لتحطيمي؟!

 

أحيانًا، ينظر لي أحدهم بغضب شديد، ويبصق على وجهي، ثم يقول "أستغفر الله، أعوذ بالله منك" ولا أظن أن الملائكة اعتبرت أن ما فعله سيدخله الجنة.. ما لهؤلاء يا فرانسيس؟

 

لقد حاولوا تفجيري كطائرة حرب صهيونية، ففي عام 1997، بينما كانت تتساقط المياه من نافورتي، وجدت نفسي قد وقعت في فخ التفجير، وبعد التفجير هتفت مجموعة من الناس "الله أكبر، الله أكبر، انتصر الإسلام" تعجبت حينها مما حدث، ماذا كان يريد هؤلاء؟ هل يظنوني جندية صهيونية توجه سلاحها صوب أطفال فلسطين؟ أنا لم أشعر بشيء حينها، ولم أتألم، لأنه تم ترميمي في اليوم التالي، ولأنني لا أشعر.. أنا مستسلمة جدًا، لو جعلوني حجارة لمسجد أو كنيسة أو خمارة فلن أعترض، فلماذا يعطوني أكثر من حجمي؟!

 

بينما يتقدم العالم الآخر ويفكرون في الصناعة والفن والتعليم والطب والأدب، الناس هنا لا يتحدثون سوى عني، وانقسموا حول وجودي أو تحطيمي، يقولون أنني أعبر عن الغرب الكافر والاستعمار الفاجر، وتناسوا أن من أعادني بعد تفجيري وأمر بترميمي كان من المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي وكان قد أصدر الفرنسيون حكمًا عليه بالإعدام.

 

ورغم أني أشكل جزءًا من تراث المدينة الحضاري لدرجة أن تسمى مدينة سطيف باسمي "عين الفوارة". إلا أن زعيم "جبهة الصحوة" السلفية في الجزائر، عبد الفتاح حمداش، قد طالب السلطات الجزائرية بإزالتي؛ لأني "صنم" ورمز للشرك بالله! لماذا يتحدث هؤلاء بسم الله؟! أعتقد أن الله سيرضى عنهم عندما يهتمون لأمور الفقراء أكثر من تمثال عار في ساحة، أنا حجر بالفعل، لكني أدرك ذلك جيدًا.

 

نجح أحدهم في استئصال صدري وتشويه وجهي، ولكن العالم لم يتغير بعد ما حدث لي، ما زال هناك احتلال، وقمع، وقتل، وسرقة، وفساد، وما زالت بلادهم تعود إلى الوراء
نجح أحدهم في استئصال صدري وتشويه وجهي، ولكن العالم لم يتغير بعد ما حدث لي، ما زال هناك احتلال، وقمع، وقتل، وسرقة، وفساد، وما زالت بلادهم تعود إلى الوراء
 

أعلم أنك تعجبت عندما علمت أن رئيس حزب سياسي ديني يطالب بإزالتي، ألم أؤكد لك أنني أصبحت قضية رأي عام؟! الأمور معقدة جدًا، وهناك فتاوي أخرى غريبة، تخيل أن إمام مسجد أبي ذر الغفاري بولاية قسنطينة، في أغسطس 2015، أفتى بعدم جواز شرب الماء الذي يتساقط من نافورتي بدعوى أن الشرب من الماء سيؤدي إلى الانحناء أمامي وهو ما يعد عبادة لي، وكفر بالله!

 

ورأي ثالث لشيخ يطلق على نفسه وسطي دعا بتغطيتي وإلباسي "جبة سطايفية" حتى لا أفتن الناس، وحتى لا يعبدوني! أعلم أنك ستضحك على حالي لو قرأت كلماتي، ولكن عليك أن تضحك على هؤلاء أكثر.. وعلى كل هؤلاء أن يبكوا على أحوالهم.

 

منذ أيام قليلة، جاء رجل ذو لحية، يرتدي جلباب أبيض، وفي يده مطرقة حديد، كنت أظنه جاء لإصلاح النافورة، ولكنه صعد على جسدي وبدأ توجيه ضربات لوجهي وصدري، وظل يهتف ووجهه غاضب، والناس يحاولون إبعاده بإلقاء الحجارة نحوه، ولكنه لم يبال للحجارة، كما لم يبال للشرطة التي حضرت، كان غاضبًا وظل يردد "في سبيل الله قمنا" وقد نجح في استئصال صدري وتشويه وجهي، ولكن العالم لم يتغير بعد ما حدث لي، ما زال هناك احتلال، وقمع، وقتل، وسرقة، وفساد، وما زالت بلادهم تعود إلى الوراء، وما زلت أنا لم أشعر بآلام ما حدث، ولن أشعر، لأنني حجر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.