شعار قسم مدونات

الإسلاميون ونقل التجربة إلى الجيل الجديد

blogs تناقل الخبرات في الحركات الإسلامية

أثار انتباهي وفضولي وأنا أشاهد برنامج المقابلة وهو يستضيف المفكر السوداني الدكتور منصور خالد، وزير الخارجية السابق، وكان يتحدث عن تاريخ السودان الحديث ورجالاته ودور المثقف السوداني في تنمية وتثقيف الوعي العام ومساهمته في ارتقاء وبناء الإنسان والبلد معا.

ومن الأسئلة التي وجهها المذيع إلى المتحدث كان من بينها سؤال يتعلق بالدكتور حسن الترابي – رحمه الله تعالى – (مالئ الدنيا وشاغل الناس في حياته وبعد مماته والرمز المميز للحركة الإسلامية السودانية وأكثرهم شهرة وتصدرا في المشهدين المحلي والخارجي) ودوره في إثراء الحياة العامة والحراك الشعبي واهتمامه في المجال السياسي إلى آخر لحظة من حياته. فقال منصور خالد: كان على الشيخ الترابي أن يجلس في مكتبته ويروي – للأجيال الصاعدة والناشئة الجديدة الذين يتميزون بالحيوية والنشاط ويحملون همَّ المجتمع ويأملون في إفادة الأمة وانتشالها من مآسيها وارتقائها بالمقام الذي يليق بها – تجاربه الحية وخبراته الطويلة المتشعبة الممتدة إلى سنوات كثيرة، بدل الانشغال بصراعات حركية وسياسية تستهلك الوقت والقوة والعمر معا من غير نتيجة وفائدة يذكر.

قلت: هذا الكلام الذي تفوه به الأستاد خالد فهو كلام في غاية الحكمة وتنبئ عن بصيرة ورؤية ثاقبة في حال الأمة، وتحكي عن تجربة واقعية تدل على دراية واسعة في مجال الحكم والإدارة ومعرفة أحوال الناس، وهو كلام مهم جدا يغفل عنه أو يستصغره كثير من منظري وزعماء الحركات الإسلامية في العالم، ويعتبرونه نوعا من التجني وعدم الاحترام والتقدير بمقامات هؤلاء العظماء الذين بذلوا النفس والنفيس، وخاطروا في حياتهم، ووظفوا ريعان شبابهم، وحملوا مهجعهم في أكفهم من أجل خدمة الدين والذود عن ثوابت الإسلام وكلياته من دون خوف ولا وجل من كل طاغية ومستبد يريد تطويع الدين والدنيا في مصالحه الشخصية والحفاظ على كرسيه. ولأجل رد الجميل لهم والاعتراف بدورهم وتضحياتهم ينبغي أن يستمروا في تصدرهم وقيادتهم في سفينة الحركات الإسلامية إلى أن ترسو في برِّ الأمان والتمكين، أو يواصلوا مسيرتهم حتى الرمق الأخير من حياتهم.

العاقل الذي يعرف عظم المسؤولية ومكانتها لا يحرص عليها بل يفضّل أن يخلد إلى الراحة ويختار التنحي عن الصدارة، والجلوس على الكراسي الخلفية، ويقصر عمله وجهده في تقديم النصائح وتذكير التجارب وتحفيز الهمم

هذا كلام من لم يفهم الحياة بوجهها الصحيح ولا يقرأ تاريخ الأمم والشعوب والأفراد، ولم يدرس سيرة العظماء والقادة، ولم يتصفح أحوال الحضارات والدول التي أفل نجمها وصارت أثرا بعد عين، وأصبحت عبرة وتذكرة لمن خلفهم، لأن الإنسان مهما أوتي من علم وعقل وقوة ونشاط لا يستطيع أن يستمر في عطائه وتصدره على وتيرة واحدة من دون كلل أو ملل أو توقف، بل يحتاج إلى فترات يراجع فيها إنجازاته وينظر إلى ماضيه، لمعرفة الأخطاء والسلبيات، وتدوين النجاحات والإخفاقات، من أجل التطلع إلى مستقبل أفضل ونجاح باهر يحيي الأمل في نفوس الناس.

 

وقد يتحقق هذا الإنجاز بيده أو بغيره، ولكن العاقل الذي يعرف عظم المسؤولية ومكانتها لا يحرص عليها بل يفضّل أن يخلد إلى الراحة ويختار التنحي عن الصدارة، والجلوس على الكراسي الخلفية، ويقصر عمله وجهده في تقديم النصائح وتذكير التجارب وتحفيز الهمم، وإشارة مواضع القوة التي ينبغي الحفاظ عليها وتطويرها وتنميتها، وبيان مكامن الخلل التي كانت دوما تمثل الحلقة الأضعف في مسيرة الحركة، كما يضع نصب عينيه في تحقيق مبدأ نقل التجربة وإفساح المجال أمام الجيل الثاني والثالث ليتحملوا مسؤوليتهم دون التشويش عليهم، من غير أن يتقمص في أداء دور الوصي والرقيب، وممارسة عمل محامي الشيطان الذي يؤمن بأن كل إنجاز ونجاح لا يتحقق إلا بيديه ليس عملا عظيما، بل فيه نقص أو خسران.

والملاحظ في مسيرة الحركات الإسلامية يرى أن مبدأ نقل التجارب إلى الأجيال الجديدة والصاعدة ينذر أو يقل وجوده في صفوفها إلا القليل منها، لأن الزعامات التي تتولى المناصب العليا في الحركات تبقى في مراكزها ومواقعها غالبا، وليس هناك نظام يحدد السن القانوني للتقاعد، وكل من تقدم به العمر وانحصر عطاءه ورق عظمه انتقل إلى المجالس العليا للحركة ليؤدي دور المعطي المنّان، أو المفتش الذي لا يريد تصحيح الأخطاء بل همّه إفشال العمل بأكمله حتى لا تظهر بصمات من قام به.

 

ومن أجل الحيلولة دون تطلع الجيل الأصغر سنا إلى مواقع صنع القرار وتقويم بوصلة الحركات وتقويمها وتجديد دماء قادتها، تحتكر الزعامات بالمعلومات الموجودة لديها، ولا تسمح لأعضائها بمعرفة تاريخ الحركات وكيفية إدارتها، والمتاعب التي تواجهها، بصورة تفصيلية إلا ما تريد القيادة في إبرازه من أجمل تجميل وجهها وتعظيم شأنها بين المجتمع. وتكمن أهمية نقل التجارب إلى الأجيال الصاعدة بتمكينهم في معرفة إنجازات الحركات وإخفاقاتها حتى لا يتكرر الخطأ مرة أخرى، وليسهل عليهم التعامل بجدية واهتمام بكل مشكلة ستواجههم في حياتهم اليومية.

انتقال التجارب والخبرات بين الأجيال، يجعلنا نتفادى الأخطاء ولا نكررها، وإلا ستبقى الحركات الإسلامية مزارع شخصية تبقى ما بقي أهلها، وتخرب وتذهب عندما يعجز مالكوها في رعايتها والتعهد عليها بالإصلاح
انتقال التجارب والخبرات بين الأجيال، يجعلنا نتفادى الأخطاء ولا نكررها، وإلا ستبقى الحركات الإسلامية مزارع شخصية تبقى ما بقي أهلها، وتخرب وتذهب عندما يعجز مالكوها في رعايتها والتعهد عليها بالإصلاح
 

في الأمم المتحضرة يتفرغ السياسيون وصناع القرار بعد تركهم وظائفهم الرسمية أو انتقالهم إلى التقاعد الاختياري أو القانوني إلى تدوين مذكراتهم الشخصية والوظيفية أو ينضمون إلى مراكز البحث والتوجيه أو يصبحون محاضرين عالميين يجولون في جامعات العالم وقاعات المعرفة من أجل رواية حكاياتهم وتجاربهم السياسية والإدارية لغيرهم، لأن البيئة التي ترعرعوا فيها والمعاهد والجامعات التي تخرجوا منها علمتهم بأن الأمم والشعوب لا تستطيع النهوض من كبوتها ولا تقدر المنافسة بمثيلاتها إلا إذا تعاون أبناؤها في تقديم أفضل ما لديهم من معلومات وخبرات لمجتمعهم ونقل تجاربهم إلى جيل بعد جيل، لأن العمل من أجمل المسؤولية الجماعية مما يحقق الريادة والتقدم للشعوب والدول معا، ولا يمنع ذلك من جنيهم مبالغ فلكية لم تذر لهم مناصبهم السابقة لأن المعلومة أكثر ثمنا وأعلى قيمة من الوظيفة الرسمية.

وأخيرا إذا كان هدف قادة الحركات الإسلامية هو الإفادة للأمة دينا ودينا، ورفع راية الإسلام خفاقة عالية، وليس المهم من يرفعها، بل الأهم من ذلك أن تكون متصدرة في كل مجال، يجب عليهم إعطاء الفرصة وإفساح المجال أمام الأجيال الصاعدة وتزويدهم بكل التجارب والخبرات التي امتلكوها فترة انتمائهم إلى الحركات والجماعات، ليستمر العطاء بدون كلل ولا يتوقف، وليتفادى الأخطاء ولا يتكرر، وإلا ستبقى الحركات مزارع شخصية تبقى ما بقي أهلها، وتخرب وتذهب عندما يعجز مالكوها في رعايتها والتعهد عليها بالإصلاح، والحركات أعلى قدرا وأكبر شئنا من هذا التوصيف لأنها تأسست من أجل النفع العام، ويعود ملكيتها إلى الأمة جمعاء، ولكن عند غياب الوازع الديني يتحول كل شيء إلى ضده وعكسه، وتصبح المؤسسات العامة إلى ملكيات خاصة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.