شعار قسم مدونات

عن سبيل الله والعقل الإسلامي!

مدونات - قرآن

قد ينفق المرء عمره كله وهو يردد عبارات وكلمات لا يعرف معانيها الحقيقية، ولم يخطر بباله أن يتفحصها. مع أنها قد تكون في غاية الخطورة، لما يترتب عليها من تبعات ومواقف في الدنيا والآخرة. وذلك الإهمال سببه الثقة العمياء بالسلطة المعرفية التي ينقل عنها هذه العبارات والكلمات، بدلالاتها غير المحققة. فهو يعتقد واهما أن هذه السلطة قد قامت بواجبها في الفحص والتدقيق عبر مئات من السنين أحياناً. مما يعني أن هذه المفاهيم قد اكتسبت عنده صفة الأصالة إلى جوار مصدرها المتعالي. والقدم مع علو المرجعية المعرفية، صفتان تمنحان المعرفة قوة لا تقبل التشكيك في المجتمعات الراكدة. غير مدرك لعوامل الضعف والقصور التاريخية والمنطقية التي قد تمنع حصول الكمال في مجال المعرفة.

خذ على سبيل المثال عبارات: القتال في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن النكر. التي تتردد في أنحاء القرآن الكريم والخطاب الإسلامي. هذه العبارات لن تجد لها تعريفات محددة في المدونة القرآنية، ولا حصراً لعناصرها الأساسية، على طريقة العلماء في التعريف بمصطلحاتهم. بل ستجدها مفتوحة الدلالة على حدود القيم والمعاني الإسلامي التي تستطيع أن تستقرأها في المدونة القرآنية. وهذا جانب له دلالته في فلسفة القرآن الكريم. فهو يترك مساحة واسعة لفاعلية العقل المخاطب، يتحول معها من عقل متلق، أو مستلق، إلى عقل منتج، يثير الأسئلة، ويبحث عن إجاباتها في كتب الله المختلفة: الكون، الإنسان، القرآن، الكتب السماوية. فتنشأ في ذهنه علاقة عضوية تكاملية بين كلمة الله المسموعة "الكتاب" وكلمات الله المخلوقة "العالم". 

ما دام أن المتقدمين لم يفلسفوا علومهم، فإن الفلسفة – بكل صورها – علم لا ينفع وجهل لا يضر. ومن ثم فإن الدين ليس بحاجة إليها، بل إن الدين هو بديل الفلسفة ونقيضها

وهذه العملية التفاعلية لا تتم في الفراغ مثلما قد يحدث مع أي كتاب بشري سيء التأليف، وإنما تحدث، كما قلت، في ملعب القيم الإسلامية الواسع، وعلى ضوء المفاهيم الإسلامية الأخرى. غير أن المشكلة التي يعاني بسببها القرآن هي غياب العقل الفلسفي الإسلامي. أي غياب ذلك النشاط العقلي الذي يقنن الجهود العلمية التي بذلت في السابق والتي كان ينبغي أن تبذل في الحاضر، ضمن سياق التطور الطبيعي للعلوم. فضلا عن غياب العديد من العلوم الضرورية لفهم الظاهرة الدينية عامة والإسلامية على وجه الخصوص. فعلوم القرآن، على سبيل المثال، ما زالت في صورتها البدائية القاصرة حتى الآن. وأقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات العربية لم تسمع بعد عن مادة الفلسفة القرآنية، أو علم التاريخ القرآني، أو علم النفس القرآني، أو علم الأديان المقارن، أو حتى فقه اللغة القرآنية. 

ونتيجة لغياب هذه العلوم مع الفلسفة القرآنية، تنهزم جحافل الفقهاء التقليديين أمام أسئلة الشباب المثقف في الأجيال الأخيرة. ثم ترفض هذه الجحافل، باستعلاء غريب، الاعتراف بهذه الهزيمة، مفضلة اتهام الشباب في عقله ومقاصده. فتكون النتيجة انصراف الكثير من الشباب المثقف عن الإسلام نفسه، لقوة الشبهات التي يجدونها وضعف الإجابات المطروحة. ولا مجال هنا لاستقصاء ظواهر القصور في العلوم الإسلامية، وأسبابها التاريخية. لكن لا شك أن أحد تلك الأسباب هو تلك النظرة التبجيلية الزائفة لجهود المتقدمين العلمية، والزعم بأنهم قد قالوا الكلمة الأولى والأخيرة في فهم الدين، فلا مجال للمراجعة والنقد.

وما دام أن المتقدمين لم يفلسفوا علومهم، فإن الفلسفة – بكل صورها – علم لا ينفع وجهل لا يضر. ومن ثم فإن الدين ليس بحاجة إليها، بل إن الدين هو بديل الفلسفة ونقيضها. وإذا كان المتقدمون من الإسلاميين معذورون، إلى حد ما، في موقفهم من فلسفة زمانهم، بوصفها إما فلسفة تأملية أو فلسفة سفسطائية، فإنه لا عذر للمتأخرين منهم في موقفهم النافر من الفلسفة في صورها المنهجية، أو باعتبارها رتبة عليا من رتب المعرفة. فالفلسفة في جوهرها هي العلم الذي يقنن العلوم في مقولات كبرى. والدين هو أحوج العلوم إلى الفلسفة بهذا المعنى. فعبارة مثل "سبيل الله" حين ترد في القرآن، إذا لم تفهم في ضوء فلسفة قرآنية شاملة فإنها قد تصبح مادة للتضليل. ويصبح سبيل الله هو سبيل أبي بكر البغدادي وعبد الملك الحوثي مثلا.

سياقات الحرب في القرآن تدل على أن الحرب المشروعة في الإسلام هي تلك التي تدافع عن الحقوق والحريات، ضد الأنظمة والسلطات المستبدة
سياقات الحرب في القرآن تدل على أن الحرب المشروعة في الإسلام هي تلك التي تدافع عن الحقوق والحريات، ضد الأنظمة والسلطات المستبدة
 

من منا لم يلمح في هذه العبارة ظلال الحرب والقتال في سبيل نشر الإسلام عندما كان يسمعها في شبابه الباكر على الأقل؟ من منا تعلم أو سمع في محيطه الديني أن سبيل الله في القرآن، كما تدل سياقاته، هو سبيل الحقوق والحريات الإنسانية، وليس سبيل نشر الإسلام بالقوة؟ هذا لأن العقل الإسلامي نفسه لم يتوقف أمام مفهوم الحقوق والحريات. ليس لأن القرآن خلا منها، بل لأن العقل الذي نظر في القرآن كان موجهاً بثقافة تاريخية قاصرة. أبسط مظاهرها المتعارضة مع القرآن موقفه البائس من ظاهرة الرقيق. فلم يفطن العقل الإسلامي آنذاك إلى فلسفة القرآن في التعامل مع حالة الرق في عصره. وتوقف عند تطبيقاتها التاريخية بصورة سطحية للغاية، أساءت لسمعة الإسلام إساءة بالغة.

أنظر إلى قوله تعالى في سورة البقرة: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ". 246. تلاحظ أن بني إسرائيل يتحدثون عن "سبيل الله" بوصفه سبيل الدفاع عن المستضعفين الذين أخرجوا من ديارهم وأبعدوا عن أبنائهم. أي سبيل الدفاع عن الحقوق الطبيعية للإنسان. وسياقات الحرب في القرآن تدل على أن الحرب المشروعة في الإسلام هي تلك التي تدافع عن الحقوق والحريات، ضد الأنظمة والسلطات المستبدة. فلماذا إذن ضمر لدى المسلمين الشعور بالحقوق والحريات لو لم يكن العقل الإسلامي قد أبحر خارج المياه الإقليمية للقرآن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.