شعار قسم مدونات

كاميرا أمام مقاوم

blogs إبراهيم أبو ثريا

تبدو عجلة التاريخ ضيقة عندما نعاصر حدثًا ما ونحن فيها، نظنّ أن البداية نحن والنهاية لدينا، يغيبُ عنا أنّ عجلتنا ليست إلا سلسلة غير متناهية بدأت قبلنا وتتجدد إلى أجلٍ لا نعلمه، وأن المشاهد تتكرر، نعم كثيرٌ منها يتكرر بل يتوالد إلى صورٍ أخرى جديدة والمعنى فيها واحد، طرفٌ يستبيح ويعطي ما لا يملك لمن لا يستحق وثائرٌ مقاومٌ يناضل وعميل ساقطٌ خائن، والنهاية يرثها عبادٌ صالحون، لكن متى؟، في ساعةٍ لا نعلم حينها ونعلم أسبابها.

 

سؤالٌ يلحّ كثيرًا في كل مفترق طرق تمر به الأمة، وهو: ماذا عسانا فاعلون؟ ما واجبنا لنصرة الوطن؟ وتتصوّب الأنظار في المشهد إلى تلك النهاية الوردية التي نرى الوطن فيها عروسًا، ونشيح بالأنظار عن ذاك الثائر الذي عاجل بالمهر لتلك الرقعة الجليلة كي يجعلها حرّة، فقلما نتساءل: ما واجبنا نحو أولئك المقاومين والمكلومين الذين أثخنتهم الجراح؟

 

بناء الإنسان قبل العمران

الدرس الذي ينبغي ألا يغيب عنّا هو: لماذا جعلنا أبو ثريا ينتظر قرابة العشر سنوات وهو بلا رجلين اصطناعيتين؟ أين قوة وسائل الإعلام في تحقيق مطالب المنكوبين؟

لن أذهب بعيدًا، ومن غزة العزة جدّد لنا الشهيد البطل إبراهيم أبو ثريا معنى أن تكون رجلًا هامة همته في الثريا، رجلًا مقاومًا دون معايير المنطق والحسابات الأرضية التي تثقلنا كلما تساءلنا: وما القوة التي استطعنا؟ حتّى صدق فعله قوله مذ قال أنه يتحدى الاحتلال الذي ما قهره حقًّا لما سلبه سنده، رجليه اللتين فقدهما جراء القصف الصهيوني على غزة عام 2008. واستمرّ يكافح الحياة بسعيه عاملًا غير عاجز، يتسلق أسطح السيارات لينظفها كي يكسب قوت يومه، وهو بلا رجلين اصطناعيتين حتى، تمناهما وما كسبهما وما أقعده ذلك أبدًا.

 

بعيدًا عن كل الدروس التي يمكن أن نتعلمها من قصة هذا الرجل الإنسان الثائر، في عصر الألفية الثالثة، فإن الدرس الذي ينبغي ألا يغيب عنّا هو: لماذا جعلنا أبو ثريا ينتظر قرابة العشر سنوات وهو بلا رجلين اصطناعيتين؟ أين قوة وسائل الإعلام في تحقيق مطالب المنكوبين؟ وكم مثل ابراهيم أبو ثريا في مناطقنا المنكوبة تتجاهلهم كاميراتنا وأقلامنا وأموالنا وتبرعاتنا عجزًا؟ وكم مرة نسأل بها (أفرادًا وجماعات وقيادات) ما دورنا تجاه الإنسان المكلوم قبل أن نسأل ما هو دوره تجاه قضايانا؟

هل من الممكن أن يرتفع سقف الصحافة الإنسانية، لتكون سبيلنا كصحفيين وإعلاميين وناشطين لإلقاء الضوء على قصص هؤلاء الناس وهم أحياء قبل أن نفقدهم؟ فنكرمهم بما ألهمونا به بعضًا مما قد يغسل عجزنا ويحقق واجبنا؟ هم لا ينتظروننا بطبيعة الحال، بل يذهبون لا تخطئهم بوصلتهم، ولكنه بعض الواجب والدور الذي نتغافله دائمًا: ما دورنا تجاه الإنسان المجروح قبل البناء المنكوب؟

 

الصحافة الإنسانية وانحراف المسرب

لا أغفل المساحة التي تفردها المحطات الإعلامية والصحف والمواقع الإخبارية من موادها لما يسمى بالصحافة الإنسانية، والتي باتت أمرًا ملحّا ومهمّا للتغطية كغيره من المواد الإخبارية الأساسية مع تفاقم الصراعات والنكبات والكوارث الإنسانية خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي توسّع إلى أن تشغل حيزّا في باب جوائز الصحافة عبر العالم، ومنها جائزة الصحافة العربية في دبي. وتُخَصّص منظمات الإغاثة الدولية وحدات إعلامية خاصة لهذا النوع من الصحافة تخاطب بها الجهات المتبرعة.

 

الأمر إلى هنا يبدو جيدّا، فالإنسان بطبعه يقترب مما يحاكي طبيعته البشرية الاجتماعية، ويقترب مما يلامس قلبه الذي أرهقته أخبار الجرائم والفساد وأخبار زار وافتتح فلان، إلى ما يحاكي عمق الإنسان فيه بل وقد تجعله يومًا مركزها حين تلقي الضوء على إنجازه الذي لا تلتقطه الأضواء عادة. إلا أنّ الأمر يبدو سيئًا جدّا لمّا تصبح هذه المادة الإعلامية الإنسانية وسيلةً لرصد ورفع منسوب الجوائز والإعجابات والمشاركات والمشاهدات، ويغيب ذاك السؤال "لماذا"؟

كنّا مقصّرين مع إبراهيم أبو ثريا لمّا بخلنا عليه بتحقيق أمنيته برجلين اصطناعيتين يكابد بهما مشاق الحياة، لكنه ما بخل على نفسه نضالا
كنّا مقصّرين مع إبراهيم أبو ثريا لمّا بخلنا عليه بتحقيق أمنيته برجلين اصطناعيتين يكابد بهما مشاق الحياة، لكنه ما بخل على نفسه نضالا
 

إنّ أقلامنا وكاميراتنا كصحفيين وإعلاميين وناشطين، وقت الحروب والنكبات خاصة، مهمّتها أن تتقصى معاناة الإنسان وتعرضها لتضغط وبقوة نحو إيجاد الحلول وليس لمجرد العرض، نحو بناء وترميم وتمكين الإنسان قبل بناء وتشييد البناء. وتغدو مسؤولية الإعلام الاجتماعية هذه وقت النوازل أشدّ وأدعى، بل وتعدّ حينها جزءًا من عملية المقاومة ككل، ذلك أنها تمكّن للمقاوم ممارسة دوره بأقلّ حدٍّ من العوائق، كما وتجعله ماضٍ في طريقه مطمئنًا على من سيخلفهم وراءه من زوجٍ وولد، إلى جانب الدعم الاجتماعي الذي يتحقق لدائرته من بعده فلا يُتركون يكابدون الحياة وحدهم يدفعون ثمن ما قدّمه أحدهم من أجل المجموع ككل، حتى إذا ما قضى نحبه باتوا فُرادى.

 

هي المسؤولية الجماعية إذن، بل وإن صحّ أن نسميها "المقاومة الجمعية" لكل ما من شأنه أن يعرقل المضي نحو تحقيق الهدف، لذاك العدو الذي يريد أن ينهش في الجسد الجمعي للوطن كي يشلّه عن السعي والعمل والاستمرارية، فيشغله بأمره عن العام حتى لايرى إلا ذاته وقوت يومه. ويرافق كل ذلك مسؤولية أخلاقية تُزيل الغباش عن عدستنا في كلّ مرة اتجهنا فيها بدافع مسؤوليتنا الإعلامية الاجتماعية اتجاه الإنسان، تجعلنا نفكّر به أولا قبل أن نفكّر بزخرفة موادنا الإعلامية، هل من شيء ممكن أن يؤثر عليه سلبًا، إذا ما أنتجنا مادتنا بهذا الشكل؟ إذا ما سألنا هذا السؤال؟ إذا ما صوّبنا الكاميرا من هذه الزاوية أو تلك؟

 

المقاوم مرة أخرى لمّا يريد لا يفكّر في الأمر بحساباتنا ومنطقنا الدقيق هذا وقد جاد وباع أغلى ما يملك "روحه"، لكنه واجبنا إزاء نضاله أن نحوّل السؤال من دائرة: ماذا قدّم للوطن؟ إلى ماذا سنقدّم لمن قدّم للوطن؟ كنّا مقصّرين مع إبراهيم أبو ثريا لمّا بخلنا عليه بتحقيق أمنيته برجلين اصطناعيتين يكابد بهما مشاق الحياة، لكنه ما بخل على نفسه نضالا يجعله يحظاها مرتين، مرةً بفقد رجليه، وثانية بطلقةٍ على جبينه الذي ما طأطأه أمام المحتل، وبينهما سموٌّ ثائر طال به الثريا.

 

عليك ألف سلام، مرة ومرتين وثلاث وسنبقى نرددها.. أيها البطل ابراهيم أبو ثريا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.