شعار قسم مدونات

ما معنى أن تكون "القدس" بوصلتك؟

blogs القدس

"قِف يا بُنيَ في محرابِ العمرِ قوياً مُكبّراً، سَمِّ الله مِن قبل ومِن بعد، ضع القدسَ بين ناظريكَ بوصلةً عليها تُقبِلُ بكلِّ قضاياك، لا تجزع ولا تخف فهذي القدس أمانُ السائرين إليها"..

بهذه الكلمات وبمثلها كان يُترجِمُ دموعَ أجدادِه، بهذه الكلمات وبمثلها كان يسمعُ حكايات البيارات. لم تكن فلسطين بالنسبة إليه حكايةً عابرةً يوماً، لم تكن أهازيجُ المساء تغنّى لتمتعهم في جلسات السمر فحسب. كانت فلسطين حاضرة الزمان والمكان؛ تشاركه أحزانه وأفراحه، يراها في كلّ تقاليده وعاداته، يقرأها في كتبِ التاريخ وقصص اللجوء وأدبِ الكبار، يتلوها آيات في سور القرآن.. أدركَ مُذ ابتدأ العمرَ أنّ هذي الأرض بوصلةٌ وقِبلة، وأنّ البشرية مُذ ابتدأت هذي الخليقة تتنازع الدخول والخلافةَ عليها.

كانَ يدركَ جيداً كلّما وقف بين يدي الله للصلاة، أن القدس لم تكن أولى القبلتين عبثاً، وأن الصعود إلى السماء لَم يكن من فوقها مُصادفةً. كانَت القدس حاضرةً عند الصلاة تذكّرهُ بأنَه صاحبُ قضيةٍ لا يُتنازَلُ عنها ولا تقبَلُ التفريط. ما معنى أن تكون القدس بوصلتك؟ ما معنى أن توجِهَ إليها مشاعرَ قبلتك؟ لماذا رُدِّدَ عليه مراراً بأنّ البوصلة التي لا تشيرُ للقدس مشبوهة؟ أتكونُ كلُّ القضايا الأخرى هباءً منثوراً؟ ألا يكون للظلمِ في هذي الأرض قيمةً إلّا إن كان فوق ثرى القدس وما حولها؟ لم تكن هذي الأفكار لتخطر بباله أبداً، فقد كان يعلمُ يقيناً ما معنى أن تكون القدس بوصلته.

كان يعلمُ أنه يعيش في منطقةٍ مُلتهبةِ الأحداث منذُ القدم، زاخرة بالحضارةِ منذُ كانت، لم يكن لينظرُ لهذه المنطقةِ على أنها أجزاء منقسمةً أبداً، حتى لو أراد لها العدو أن تنفصل لدولٍ عدّة فإنّه يؤمنُ يقيناً بأنّ مصير المنطقة واحد وعدوها كذلك واحد. كان يرى في وجهِ حلب وجهَ بغداد دامعاً حزيناً يعودُ من جديد، كان يرى في تدمير بيوت الشام بيوت وحضارة صنعاء والقاهرة والبصرة وبغداد. كان يعتصمُ لأجلِ مصر ويتكلم عنها، لكنّه يبكي على كلِّ أطراف المنطقة معها.

 

القدس هويةٌ يحملها رجل في بغداد وآخر في الجزائر، القدس أمانة تتعهدها امرأةٌ في عمان وأخرى في بيروت، القدس لا تعرف جغرافيا رسمها طغيان. بوصلةُ القدس تشير نحو الأمةِ وقلبها
القدس هويةٌ يحملها رجل في بغداد وآخر في الجزائر، القدس أمانة تتعهدها امرأةٌ في عمان وأخرى في بيروت، القدس لا تعرف جغرافيا رسمها طغيان. بوصلةُ القدس تشير نحو الأمةِ وقلبها
 

كان يرى القدس في اليمن وتونس وكل البلاد، كان يراها في الفقر الذي تشكو منه الشعوب، والعجز الذي يُضيِّقُ القلوب، كان يراها في حيرةِ الشباب، وترهُّلِ الإدارات، وعجزِ المُصلحين، كان يراها في ذلك كلّه تطلبُ يدَ عونٍ ونصر. كان يعرف جيداً أن المنطقة كلها تصب في بوتقة واحدة، وأن القدس مركز هذه البوتقة؛ ليست لأنها أرضه التي لم يرها، ولا لأنها وطنه الذي لم يعش فيه، ليست لأنها إرثُ أبيه وأمه وأهله، ليست لأنها حبُّ الروح الأول الذي لم يحد عنه أبداً. لكن لأنها وصلُ الأرضِ بالسماء، لأنها محطُ البركة التي وضعها الله في أرضه، لأنها مسرى الحبيب – عليه الصلاة والسلام -، لأنها الموضع الذي منحه الله لحملةِ الرسالةِ من عباده مرّ الزمان، لأنها ميزان الأمة الذي يٌظهرُ تقصيرها من تمكينها.

تأتيه اليومَ جملٌ تسأله عن عنصرية توجيه البوصلة نحو القدس، فيغضَّ الطرف عن ذلكَ كلّه متيقناً بأنَّ مَن عرف معنى القدس لم يكن للعنصرية في قاموسه معنىً. فالمقدسيُّ الذي حملَ همّ القدس قضيةً بين جنبات روحه لا يريدُ للعدو أن يرحل عن بيسان وحيفا وعكا فحسب، لا يريد لفلسطين أن تغدو حرةً وحدها، المقدسي يبحث عمَّا يعيد بناء الإنسان في هذه المنطقة، ويحارب كلَّ مَن يسعى لهدمه من ظلمٍ وتطرُّفٍ ويأسٍ وإحباط.

أن تتجه بوصلتك نحو القدس يعني أن تعلمَ جيداً بأن المنطقةَ التي قد تم إضعافها كان من شأنها حماية هذه الأرض المباركة؛ ولذا فكلِّ موضع ألم فيها يوجهك، وكلِّ زاويةِ ظلمٍ فيها تؤثر عليك وتُقلِقُك، أن تتجه بوصلتكَ نحو القدس يعني أن تعرفَ بأنّ الله لا يرفع شأنَ شعوب مُتهالِكة، ولا يورثُ الأرض لأمةٍ لا تعمل؛ لذا فأنتَ تسعى بكلِّ ما أوتيت لأجل هَذي البلاد كلّها، لأجل الإنسان في هَذي البقاع كلها.

القدس هويةٌ يحملها رجل في بغداد وآخر في الجزائر، القدس أمانة تتعهدها امرأةٌ في عمان وأخرى في بيروت، القدس لا تعرف جغرافيا رسمها طغيان. بوصلةُ القدس تشير نحو الأمةِ وقلبها، تدلّكُ على موضع الضعف في الشعوبِ وآثارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.