بعد تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وإغلاق الأبواب أمام السياسة الأمريكية في الحرب السورية الأعنف في المنطقة العربية المندلعة منذ ستة سنوات، والتي ساعدت على تشكل أحلافاً جدد في المنطقة وتوزيع مراكز القوى من جديد بعد دخول روسيا الصراعات وبروز تركيا وإيران. رأت واشنطن أن الكيان الصهيوني بوابتها الواسعة لتثبيت نفسها وإعادة تمركزها من جديد بالتزامن مع المتغيرات الدراماتيكية القائمة.
فمن هنا جاء الدافع الأكبر للرئيس الأمريكي دونالد ترمب لنفض المنطقة من جديد حسب المفهوم الأمريكي وتوجيه أنظار العالم إلى خطابه وما سيتمخض عنه من قرارات التي أعلن عبرها أن مدينة القدس عاصمة ما يسمى "إسرائيل"، فقد خلق بذلك حالة من الهرولة والتيه السياسي للرؤساء العرب وزعماء العالم الذين انقسموا بين معارض ومؤيد والمناداة بعقد القمم والمؤتمرات والجلسات.
وبهذا نجح ترمب بتقزيم الجميع والدوس على القرارات الدولية بشأن الصراع الفلسطيني "الإسرائيلي" وإظهار أمريكا كالأب الروحي لهذا العالم، وَمِمَّا ساعد الإدارة الأمريكية على هذه الخطوة الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية، من انقسام فلسطيني داخلي حول رسم الرؤى للصراع الفلسطيني الصهيوني، وكذلك الحروب الداخلية والخارجية التي تقودها بعض الدول العربية وانشغال الشعوب في أزماتها.
يعتبر قرار ترمب بشأن مدينة القدس أمريكيا وليس دوليا، وبذلك لا يُفرض على القوانين والمواثيق الدولية رغم تأثير السياسة الأمريكية على المستوى الدولي |
ومن المتوقع أن تكون هذه الحروب السبب الرئيس في تسريع اتخاذ أمريكا للقرار بعد الحصول على الدعم العربي الرسمي، لذلك في مرحلة المقايضة بما يخص الحرب مع إيران، وهذا فضلا عن الدعم الأمريكي المتواصل للكيان الصهيوني في كل زمان ومكان.
إن من أهم تداعيات ونتائج إعلان القدس عاصمة الكيان الصهيوني وأخطرها، التي لن تنفذ على وجه السرعة للمساهمة في التخفيف من حدة التوتر وامتصاص الغضب الحاصل، فالحكومات الصهيونية المتعاقبة أظهرت صبرا في أي حملة أو قانون اتخذته ضد الفلسطينيين في آليات تنفيذه بشكلٍ تدريجي لتجنب نفسها المواجهة الرادعة لقراراتها، ومن أهم إفرازات القرار:
1-فرض السيادة السياسية وما سينبثق عنها من احتكار للسيطرة السياسية، وبسط الصلاحيات السياسية الخاصة بالكيان الصهيوني في مدينة القدس بشكل كامل
2-فرض السيادة القانونية التي تمنح كامل السيطرة على مدينة القدس، وأهم ما يبرز عنها:
أ) التغيير الديموغرافي عبر تهجير الفلسطينيين والعرب من المدينة وإحلال الصهاينة بديلا عنهم.
ب) التغيير الجغرافي عبر البناء المتسارع لوحدات استيطانية جديدة والعمل على بناء الجدران حول المدينة تمهيدا لضمها إلى الكيان
3-اتخاذ الخطوة الهامة في تاريخ الصهيونية وإعلان يهودية مدينة القدس والتجهز لهدم المسجد الأقصى وتعزيز التواجد الصهيوني واليهودي داخل المدينة المقدسة
يعتبر قرار ترمب بشأن مدينة القدس أمريكيا وليس دوليا، وبذلك لا يُفرض على القوانين والمواثيق الدولية رغم تأثير السياسة الأمريكية على المستوى الدولي، إلا أنها لن تحصل على الموافقة الواسعة كما ستسعى، لذا أمام السلطة الفلسطينية فرصة خوض الحرب الدبلوماسية بقيادة القانون الدولي ضد القرار الأمريكي وكسب إدانته وإعادة القضية الفلسطينية على سلم أولويات المجتمع الدولي واستغلال الرفض القائم للدور الأمريكي المنفرد والغير مسؤول تجاه الصراع في فلسطين.
تعتبر المرحلة القادمة من أهم المراحل المحددة للمشروع الأمريكي بشأن القدس خاصة أن القضية الفلسطينية عامة، فالاحتجاجات ستزداد حدتها مع البدء بتطبيق ما تم الإعلان عنه المتمثل بنقل السفارة الامريكية كخطوة أولى والسعي لفرض السلطة الصهيونية سيادتها الكاملة على القدس وضواحيها، وبدء تنفيذ ما ورد في نص الوثيقة الأمريكية، وبهذا إعلان الرفض الشعبي الفلسطيني لكل قرار يتنازل عن حقوقه وتحقيق مصيره.
ومن المتوقع استمرار المقاومة العسكرية في غزة في حالة سجال متقطعة مع الكيان الصهيوني لإعادة تحديد قواعد الاشتباك من جديد دون الوصول إلى تدحرج كرة النار وخوض معركة مفتوحة في المرحلة الراهنة على أقل تقدير، هذا على المستوى المحلي الفلسطيني
أما بما يخص المستوى العربي، فمن المتوقع أن لا تزداد ردّات الفعل للدول العربية عن الرفض والاستنكار لا سيما أنها ما تزال تربط القضية الفلسطينية فقط بقرار ترمب، وليس بوجود الاحتلال على أرض فلسطين، واستنكارها يأتي متوافقا مع ما وضعته القوانين والمواثيق الدولية، لذا فهي ستكون تابعة للقرارات الدولية في الأمم المتحدة ولن تلعب دور صناعة الحدث الفاعل والممارسة التطبيقية.
أما على المستوى الشعبي العربي، ستستمر الشعوب في مظاهراتها واحتجاجاتها ضد إعلان القدس عاصمة الكيان الصهيوني. وعلى المستوى الدولي، فَتَعتبر روسيا أن ما يدور من أحداث في منطقة الشرق الأوسط تصب في صالح تمدد نفوذها على حساب النفوذ الأمريكي.
لذا ستشدد على ضرورة العودة للمواثيق الدولية مؤكدة بذلك وجهة نظر معاكسة للفعل الأمريكي، وهذا الاختلاف بين قطبي العالم سيقسمه إلى نصفين، قسم بجانب السياسة الأمريكية والآخر بجانب السياسة الروسية، مما سيساهم ذلك في إعادة تشكيل السياسة الدولية القائمة إلى شطرين، وسيساهم ذلك في الإبقاء على القرار الأمريكي مُعلقا دون تراجع من واشنطن عنه.
نظرا لوصاية المملكة الهاشمية على القدس المطلوب منها الآن إعلان فقد سيطرتها على المدينة بعد قرار ترمب، وكذلك إعلان السلطة فشل مشروع التسوية وحل الدولتين، كقرارات لتعزيز الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، فالخطوة الأمريكية أعطت الفرصة للتنصل من الاتفاقيات التي قيدت مواجهة الاحتلال وساعدت في توسع انتشاره على الأرض الفلسطينية.
في نهاية مقالتنا فإن القدس ستكون مجددة الدماء في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وكاشفة المتآمرين عليها، والمسيرة للتوسع في صراع النفوذ الدولي، وستكون السبب في تراجع صورة التأييد "لإسرائيل السلام" في ظل سيرها في طريق لا نتائج لها سوى مزيدا من العنف حسب ما قاله بعض وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.