في خضم ردود الأفعال حول قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليه، ننسى أن القدس هي أيضا قضية المسيحيين ليس فقط أولئك الذين يسكنون في القدس أو في فلسطين المحتلة وإنما في العالم. فأقدس المقدسات المسيحية توجد في القدس وفي فلسطين.
ففي القدس توجد أكثر من 14 كنيسة مقدسة لدى المسيحيين بكل طوائفهم، لعل أكثرها قداسة هي كنيسة القيامة التي بنيت، حسب الاعتقاد المسيحي، في نفس المكان الذي صلب فيه المسيح، طبقا لرواية "العهد الجديد" (الإنجيل)، وكنيسة القديسة حنا "سانت آن"، التي يٌعتقد أنها بٌنيت في المكان الذي يؤمن المسيحيون أنه كان مقر منزل يواكيم وحنا (والد مريم العذراء ووالدتها). وبالإضافة إلى الكنائس المقدسة لدى المسيحيين يوجد بمدينة القدس وحدها أكثر 22 ديرا تابعة لمختلف المسيحيين كاثوليك وأرثدوكس وأقباط. وفي القدس أيضا توجد طريق الآلام وطرقا أخرى يٌعتقد أن المسيح مشى عليها.
ليس هذا فقط، فعلى أرض فلسطين ولد المسيح الذي يعتبر كنعانيا فلسطينيا، رأى النور لأول مرة في بين لحم بالضفة الغربية المحتلة، وعلى الأرض التي يعتقد المسيحيون أن المسيح ولد فوقها بٌنيت "كنيسة المهد" التي تعتبر من أقدم وأقدس كنائس فلسطين والعالم. يضاف إلى ذلك أن هناك 1% من مجموع الفلسطينيين هم مسيحيين يسكنون الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. وبالرغم من أن هذه النسبة قد تبدو ضئيلة لكن لها وزن كبير وحضور فاعل في الساحة الوطنية الفلسطينية وعلى الصعيد الدولي. وبالرغم من هذا العمق المسيحي للقدس ننسى كعرب ومسلمين هذا البعد الديني والتاريخي للمدينة المقدسة في الدفاع عنها عندما نركز فقط على هويتها الإسلامية.
إن من شأن استحضار البعد المسيحي في الدفاع عن القدس أن يكسب قضيتها تعاطفا ودعما دوليا كبيرا في العالم وفي أمريكا أيضا، وذلك من خلال إسماع صوت المسيحيين الفلسطينيين والعرب ومسيحيي العالم الإسلامي. هناك من سيدفع بأن التركيز على الطابع المسيحي للقدس من شأنه أن يحول الصراع من سياسي إلى ديني، لكن ألا يعتبر استحضار الهوية الإسلامية للقدس في الدفاع عن قضيتها نوع من إضفاء الطابع الديني على الصراع؟
إن من حول الصراع إلى صراع ديني هي إسرائيل التي أعلنت نفسها دولة يهودية، وأصبحت تطالب الفلسطينيين بعد أن اعترفوا بها أن يقروا بطابعها اليهودي، وتسعى كل يوم إلى تهويد كل شيء في فلسطين بما في ذلك حتى المقدسات الإسلامية والمسيحية. إن إحدى إيجابيات قضية القدس وقرار ترمب أنهما وحدا المسلمين والمسيحيين الذي وضعتهم إسرائيل في خندق واحد، وهذه فرصة تاريخية لإعادة إصلاح ما أفسدته التنظيمات المتطرفة التي أساءت باسم الإسلام إلى مسيحيي العالم العربي في العراق وسوريا ومصر.
قرار ترمب وجد له صدى إيجابيا لدى طائفة المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين الذين يمتعون بنفوذ كبير بالولايات المتحدة، والذين يرون بإسرائيل تجسيدا لوعد توراتي |
ثمة اليوم موقف أكبر مرجعيتين مسيحيتين في العالم يقف إلى صف العرب والمسلمين في قضية القدس، وضد قرار الرئيس الأمريكي، وهما بابا الفاتيكان فرنسيس وبابا الأقباط في مصر تواضروس الثاني. فقد استبق بابا الفاتيكان قرار ترمب عندما أعرب عن "قلقه الشديد" إزاء التطورات التي تخص مدينة القدس المحتلة، مؤكدا أن "الاعتراف بحقوق الجميع في الأرض المقدسة (القدس) هو شرط أساسي للحوار". أما بابا الأقباط فأعلن رفضه لقاء مايك بينس نائب الرئيس الأميركي في القاهرة نهاية الشهر الجاري، احتجاجا على قرار واشنطن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. كما وجه 13 بطريركيا وزعيما من زعماء الطوائف الأرثوذكسية المسيحية رسالة مفتوحة إلى ترمب يحذرون من أن خطوته هذه سوف تؤدي إلى "مزيد من الكراهية والصراع والعنف والمعاناة في القدس والأرض المقدسة".
مع الأسف، لم يولي الإعلام العربي الكثير من الاهتمام لهذه المواقف الصادرة عن أكبر مرجعيتين مسيحيتين وزعماء مسيحيون فلسطينيون، وانساق مع الإعلام الغربي الذي يركز، لأغراض في نفس من يتحكمون فيه، فقط على الغضب الإسلامي من قرار ترمب، حتى لا يثير مشاعر المسيحيين الغربيين.
إن قرار ترمب لم يصدم فقط الفلسطينيين المسلمين وإنما صدم أيضا الفلسطينيين المسيحيين، وذكرهما معا بأن مصيرهما واحدا تجمعهم قضية واحدة ومستقبل واحد منذ أن قررا العيش فوق هذه الأرض المقدسة منذ آلاف السنيين. قرار ترمب لم يفرح فقط إسرائيل واليهود الإسرائيليين وإنما وجد له أيضا صدى إيجابيا لدى طائفة المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين الذين يمتعون بنفوذ كبير في الولايات المتحدة، والذين يرون في إسرائيل تجسيدا لوعد توراتي قديم بعودة اليهود إلى أرض الميعاد.
والرد على مثل هؤلاء الإنجيليين المتطرفين يجب أن يكون مسيحيا، أي من طرف المسيحيين الفلسطينيين والمسيحيين العرب وكل مسيحيي العالم الذين يعتبرون أن قرار ترمب صادر مقدساتهم بجرة قلم وأضفى عليها الطابع اليهودي. فلو تم تنسيق وتنظيم وتوجيه الرد المسيحي الفلسطيني والعربي على قرار ترمب، لكان له صدى ووقع كبير في العالم المسيحي، وهذه نقطة قوة لا يجب إغفالها في طرح قضية القدس كقضية عادلة تهم مقدسات الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.