شعار قسم مدونات

السعودية ونذير خراب العمران

ميدان - بن سلمان

يقول ابن خلدون في مقدمته "نقلا عن المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عند الملك بهرام بن بهرام أن الملك بهرام سمع أصوات البوم، فسأل الموبذان عن فهم كلامها فقال له (إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، وقال لها"إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام).. فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده، فقال له أيها الملك إن المُلك لا يتمّ عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملِك ولا عز للملِك إلا بالرّجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل".

 
فـ "الظلم مؤذن بخراب العمران" هكذا لخص ابن خلدون مشهد خراب العمران أو خراب الدولة أو خراب المدينة لسبب وحيد وهو "الظلم". إلا أن للظلم أوجه عدة كما أن الظلم قد يُرتكب من أكثر من طرف أو جهة فقد يكون ظلما خارجيا كما تجسد في مثل البوم التي أرادت الخراب، وقد يكون ظلما داخليا ذاتيا أطرافه المجتمع والسلطة وهو الظلم الأخطر بل هو الذي يمهد حلول الظلم الخارجي، ولعل ما يحصل في السعودية اليوم هو من تجليات الخراب المتأتي من الجهتين من الداخل ومن الخارج.
 

الخراب المتأتي من الخارج

خلال حرب الموصل المشتعلة والتي دامت عدة أشهر كنت كصحفي ومتابع لمجريات الأحداث هناك أحاول أن أطّلع على أخبار الحرب من جهات مختلفة لا من جهة الإعلام المساند للقوات العراقية المشتركة فقط، فكان يهمني دائما أن أشاهد إصدارات تنظيم الدولة في كل حين عبر وكالة أعماق.. في غمرة الحرب أثار استغرابي أحد الإصدارات للتنظيم بعنوان "الجهاد في الحجاز" يعلنون فيه أن الوجهة القادمة هي السعودية في الوقت الذي يُنتظر منهم الحديث عن الموصل فقط.. لم يكن ذلك الإصدار الأول الذي يهدد السعودية، وقد سبقه في 2014 بُعيد قيام التنظيم فيديو آخر ظهر فيه مقاتلون وهم يمزقون جوازات سفرهم السعودية ويشتمون ملك السعودية متوعدين بالعودة وإعلان الجهاد في أرض الحجاز وأنهم سيقومون برفع "راية الإسلام".

 

التنظيم السرطاني
التنظيم السرطاني "تنظيم الدولة" المسيّر من القوى الخفية والمصنوع من قالب مشوّه من الفكر الإسلامي يشهر اليوم صوت النذير بالخراب في وجه السعودية
 

انتهت الحرب في الموصل وانهزم تنظيم الدولة شر هزيمة حسب ما روجت له كل وسائل الإعلام العالمية وكثر الحديث حول زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي بين أنه قُتل وأنه فرّ إلى بلاد أخرى، ليظهر هذا الأخير في كلمة صوتية بعد الحرب أبرز كلمة جاء فيها قوله "أنه سيكون في مكة حاجّا السنة المقبلة". تنظيم الدولة الذي لم يتحرك ميدانيا أو إعلاميا إلا وكان لخدمة الأجندة الصهيوأمريكية، وأبو بكر البغدادي الرجل الذي تدل كل المعلومات والمعطيات التاريخية من إقامته في دمشق بعد 11 سبتمبر وتعامله مع أبو القعقاع أحد أكبر عملاء المخابرات السورية وصولا إلى مهمته في سجن بوكا وتحشيده للمقاتلين بالعراق أن الرجل صناعة مخابراتية بامتياز.

 
هذا التنظيم السرطاني المسيّر من القوى الخفية والمصنوع من قالب مشوّه من الفكر الإسلامي يشهر اليوم صوت النذير بالخراب في وجه السعودية، كما أُشهر النذير من قبلها في سوريا وفي العراق ضمن خارطة طريق يسطرها الغرب تقضي بإنهاك كل قوة اقتصادية أو عسكرية يمكن أن تهدد إسرائيل مستقبلا لاسيما إذا وقعت في أيد غير أمينة. فكما أنهكت مصر وسوريا والعراق يجب أن يأتي الدور على السعودية والتي تُعتبر لدى الكيان الصهيوني بمثابة قلب ومركز العقيدة المعادية الذي يجب القضاء عليه لإزاحة الخطر الإسلامي.

 
أما الوجه الصهيوني المكشوف اليوم فهو وجه إسرائيل الدولة الصديقة الودودة التي تسعى بكل جهدها لبلوغ إعلان علاقتها الحميمية جهرا مع السعودية عبر مغازلة ولي العهد ودعمه بالمشاريع والاستثمارات كمشروعي نيومي، وهذا ما يتضح في الإعلام الصهيوني بشكل يومي منذ الكشف عن زيارة بن سلمان لتل أبيب وصولا إلى تدنيس صهيوني للمسجد النبوي بدعوة من بن سلمان نفسه، زواج علني يرغب فيه اليهود بعد علاقة المتعة سرا لعزل السعودية تماما عن مكانتها التاريخية في العالم العربي الإسلامي.

 

الخراب المتأتي من الداخل

 

undefined

 
هو الخراب الذي له أساسان: فساد المجتمع وفساد السلطة، وإنه إذا تجلت علامات الفساد في المجتمع فالسلطة هي المرآة والصورة المعاكسة لذلك الفساد. ولعل المجتمع السعودي اليوم تتضح فيه يوما بعد يوم علامات كبرى من الفساد العقائدي والاخلاقي الذي أسسته المنظومة الوهابية عبر التاريخ ليجني هذا الجيل الحصاد الأكبر كنموذج مجتمعي مصاب بعاهة على جميع الأصعدة (سلوكيا وثقافيا واقتصاديا ودينيا).

 
المنظومة الفقهية التي قيدت المجتمع السعودي طوال السنوات الماضية ووصل تأثيرها إلى العديد من الأقطار فحرمت على المجتمع ما شاءت من السلوكيات والمظاهر وفق طبيعة جشعة تجاه المال والمرأة، وحللت له ما شاءت من نعم وخيرات فيها من المحرمات المخفية الكثير.. هي المنظومة التي يضع لها بن سلمان حدا وفقا لما يسمه مشروع علمنة السعودية ليخرج بشعبه من حالة الكبت إلى حالة الانفجار عبر قرارات تحليل الموسيقى والحفلات المختلطة وقيادة المرأة للسيارة ودخولها الملعب، ما أدى إلى انتشار كم هائل من تجليات الفسوق في المشهد الاجتماعي السعودي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

 
صديقة سعودية عرفتها دائما متحفظة الرأي ونائية بنفسها عما تشهده بلادها من تطورات سياسية واجتماعية، فقلما تتحدث عن السياسة وإذا تحدّثت أشارت إلى الأحداث عن بعد وبتحفظ، سألتها ذات يوم عن رأيها في ما يحصل ببلادهم، ورغم أنها كانت دائما تتجنب الخوض في هذا الموضوع إلا أنها أجابت إجابة فاجأتني بها وجعلتني منشغلا في معناها، فلخصت كل إجابتها في آية قرآنية "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".

 
ذُكر أنه في بعض القراءات تُقرأ "أمّرنا مترفيها" بتشديد الميم فيصبح المعنى هنا ربما "جعلنا مترفيها أمراء"، ولكن القراءة السائدة ومعنى الآية كما قال معظم أهل التفسير هي أن أمَرنا من الأمر أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا ففسقوا أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لله. واستنادا للنص القرآني فإن خراب العمران اقترن كذلك بالظلم بقول الله تعالى "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

  

حينما ترى الكعبة الشريفة التي تحمل رمزية العفة والتواضع محاطة بالبنايات العملاقة تشعر وكأنه يضيّق عليها الخناق وتُحاصر وتفقد قيمتها الروحية شيئا فشيئا
حينما ترى الكعبة الشريفة التي تحمل رمزية العفة والتواضع محاطة بالبنايات العملاقة تشعر وكأنه يضيّق عليها الخناق وتُحاصر وتفقد قيمتها الروحية شيئا فشيئا
 

يأخذنا هذا إلى مشهد الحكم والسلطة في السعودية، مشهد بات جنونيا بأتم معنى الكلمة، فما يفعله بن سلمان قبل حتى توليه للحكم رسميا ينذر بأن فترة حكمه ستكون هي الأخطر والأكثر ظلما في تاريخ بلاد الحرمين ربما، فالرجل الذي تجاوز كل الحدود الحمراء باعتقاله للجميع من ساسة وأمراء والقيام بتعذيبهم ومصادرة أموالهم وصل به الأمر حتى لاحتجاز رئيس حكومة بلد آخر لو لا تدخل القوى الإقليمية بل وحتى منعه فريضة الحج على من لا يروق له. وهذا الجنون الذي يرتكبه هو شيء من مشهد الظلم الذي تنتجه نفسية العلوية الملكية على المخاليق بل الربوبية التي تجلت في قول فرعون "أنا ربكم الأعلى".

 
إن المشهد في السعودية من جميع أبعاده هو حقا ينذر بخراب العمران، وحتى المشهد العمراني ذاته يتحدث بهذا؛ فحينما ترى الكعبة الشريفة التي تحمل رمزية العفة والتواضع محاطة بالبنايات العملاقة تشعر وكأنه يضيّق عليها الخناق وتُحاصر وتفقد قيمتها الروحية شيئا فشيئا، بل إن المشهد الروحي برمتّه يقترب من الانفجار ويحيل كل عاقل إلى الإيمان بأحاديث تتعلق بآخر الزمن صُنّفت في يوم ما أسطورية ولا معنى لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.