وقد تعددت مسابقات الجمال من حيث الأشكال والأسماء، فبالإضافة إلى مسابقات الجمال المحلية هناك ملكة جمال العالم ثم ملكة جمال الأرض ثم ملكة جمال الكون -رغم أنه لم يسبق مشاركة أحد من المجرات الأخرى-. ثم امتدت هذه المسابقات مؤخرا لتطال الرجال والأطفال والمراهقات والمحجبات والكثير من الفئات العجيبة. ومهما اختلفت التسميات أو الخلفيات فإن جميع هذه المسابقات تشترك في شيء واحد وهو الحكم على أساس المظهر، فأي تأثير تحمله مثل هذه المسابقات؟ وإلى أي مدى تساهم في فكرة تشيئ الإنسان وتسليع الجسد؟
ولما كانت الهيمنة لتلك الثقافة، صارت تتسرب مبادئها إلى وعي الشعوب حتى المحافظة منها والمنغلقة.فصار تعريف الجمال هو الطول الفارع والجسد النحيل والخدود البارزة والشفاه الممتلئة، وغالبا ما نرى معظم المشتركات في مسابقات الجمال يتشابهن كثيرا وكأنهن تعرضن للقياس بالمسطرة. فأضحى الجمال نمطيا مُعلبا في انتهاك كبيرٍ لجوهره ومعناه. وقام ذلك التنميط بالتأثير بصورة سلبية على شريحة كبيرة من الفتيات، فمنهن من عرضت حياتها للخطر في سبيل الوصول إلى ذلك الجمال المنشود، سواء في عمليات التجميل أو بهوس الجسد النحيل الذي أدى إلى شيوع أمراض "كالأنوريكسيا" أو ”فقدان الشهية العصابي“، ومنهن من تعرضن لنوع من الأزمة النفسية بسبب عدم قدرتهن على الوصول لتلك المعايير، فأدى ذلك إلى تعزيز النظرة السلبية تجاه الذات وافتقاد الثقة بالنفس.
على الرغم من المظهر الاحتفائي بالجمال الذي تظهر به مسابقات الجمال، إلّا أن كل ما تقوم به حقيقة هو تسليع للأجساد، الفكرة التي يحاول منظمو هذه المسابقات نفيها عن طريق الترويج بأنها أيضا تقيس الفكر والثقافة إلى جانب المظهر، غير أن كل ما تقوم به هو إضافة سؤال ثقافي على هامش المسابقة بعد عرض ملابس السباحة وفساتين السهرة، وغالبا ما تُقبل جميع إجاباته على سخفها. وكل ما عليك فعله لتنجح هو الحديث عن السلام العالمي وضرورة إنقاذ كوكب الأرض.
إذا تمعنّا قليلا في تلك المسابقات فلن نجد لها فائدة حقيقية رغم الترويج لأهميتها في دعم الأعمال الخيرية والتطوعية. ربما حدث ذلك في نطاق شكلي محدود لكن ما يحصل فعلا هو استغلالها في السوق لغايات الدعاية والترويج التي تستخدم النساء والرجال على حد سواء كمادة تسويقية. فهي مسابقات مادية بحتة لا تُعنى بجمال الروح أو الثقافة فهي تشترط بالإضافة إلى الشكل أموراً أخرى كالسّن أو عدم الزواج، فيتم استغلال الشباب والفتيات في ريعان شبابهم وذروة جمالهم، حتى إذا تقدموا قليلا في العمر هجرهم ونبذهم من كان يخطب ودّهم، فيأفل نجمهم وتُسحب منهم الأضواء.
يكمن الخلل الرئيس في مسابقات الجمال كونها تختار مقياسا خَلْقيا بحتا في التفضيل، فهي بعيدة كل البعد عن مقياس الاجتهاد الشخصي والموهبة والعمل الجاد. فكيف يتم تفضيل الأشخاص في شيء لم يكن لهم يدٌ به؟ وكيف يكون المظهر مقياسا لتفوق الإنسان وحصوله على الكثير من الفرص التي لم يتعب لأجلها؟
إن فكرة اعتبار الجمال "موهبة" هي فكرة مجتمعية شائعة، تظن فيها المرأة أن أفضل ما يمكن أن تقوم به هو أن تكون جميلة، أو يكفيها أن تكون جميلة حتى تحقق ما تريد، فتصبح هذه مهمتها الوحيدة وشغلها الشاغل، فَتُهمل الجوانب الأخرى في شخصيتها كالموهبة والثقافة والإبداع والإنجاز، وتظهر مثل دمية جميلة فارغة، ومن هنا جاءت الفكرة الشائعة عن الربط بين الجمال والسذاجة.
والمغذي الأساسي لشيطان الجمال عند المرأة هو المجتمع الذي يُصنّف الفتيات وفق جمالهن تماما كما تفعل مسابقات الجمال ولكن على نطاق أوسع. فالمرأة الجميلة تحصد دائما أفضل الفرص، سواءً كانت في فرص العمل أم في العلاقات الاجتماعية أو العاطفية. وبذلك يغطي المظهر على بقية المؤهلات.
إنّ السعي للجمال والاحتفاء به ولدا مع ولادة الإنسان، فمنذ الحضارات الأولى والبشر يبحثون عنه ويطلبونه، فما زال ذلك السرَّ الإلهيَ المقدس الذي لا يمكن تفسيره، فحُبه فطرة مغروسة في نفس الإنسان، وسحره يكمن في عدم القدرة على تعريفه، وكل المحاولات البشرية لتنميطه وتشكيله هي محاولات لنزع القيم الروحية عنه، فإرغام البشر على رؤية جمالية واحدة هي تَعَدٍ شرس على هذه القيمة العليا، فلم يُخلق الجمال ليكون واحدا وإنما ليكون أشكالا وأنماطا مختلفة، فكل فتاة هي "ملكة للجمال" في أحد العيون، وكل جمالٍ وله معجبوه ومحبوه، ولو خُلق على هيئة واحدة لكان مذموما مُملا، لكنه خُلق متلونا كي لا يتوقف السعي نحوه. وربما كان أفضل تعريف للجمال هو ما نظرت إليه وسرّك. والجمال هو ما وُجد في عين الرائي، كما يقول إيليا أبو ماضي: ليس الجمال هو الجمال بذاته .. الحسن يوجد حين يوجد راء
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.