شعار قسم مدونات

ويند ريفر.. أو حالة من الاستثناء

blogs - wind

–  الحق به

–  لكنكِ تعرفين أني سأعود من غيره

–   أعرف!

 

إلى أية درجة يمكن أن تلتزم بالقوانين؟ لنفترض أنك الآن تقف أمام شخص تعرف أنه اغتصب إحداهن بعنف، ثم تركها لتموت في جو شديد البرودة لدرجة أن الدم تجمد في رئتيها، تحكي التفاصيل أنه قد استغل ورفاقه وجودها مع حبيبها فقاموا بقتله أمام عينيها أولًا بعد أن قاوم لإنقاذها، ثم ارتكبوا جريمتهم البشعة بكل برود وكأن شيئًا لا يهم إلا إطفاء نار شهواتهم.

 

ما الذي تتمناه لهذا الرجل؟ خذ السلاح بيديك، سوف أعطيه إياك حالًا، هيا، تذكر كل لحظات تلك الفتاة، تذكر بكائها وتوسلها لهم، تذكر حبيبها الذي قاوم حتى الموت بينما تكالب عليه الرجال، أطلق رصاصتك، لا.. انتظر قليلًا، يجب أن يُعذّب قبل أن يموت، كما عذبها، فالعين بالعين، اتركه في الثلج حتى تتقطع رئتاه، ولا تعطيه رصاصة الرحمة إلا فقط للتأكد من أنك أتممت مهمتك بنجاح!

 

للمرة الثالثة على التوالي ينجح تايلور شيريدن، كاتب ويند ريفر (Wind river)، كذلك (Hell or High Water) و(Sicario) أن يمزج بسلاسة شديدة بين الكثير من القضايا الشائكة والعميقة في فيلم عظيم لا يمكن بسهولة أن نطلق عليه تصنيفًا محددًا، وما يلفت انتباهي هنا الدور الذي لعبته كلٌ من إيمي بلانت (كايت) بفيلم سيكاريو ومدى تشابهه/اختلافه مع دور إليزابيث أولسين (جين) في ويند ريفر.

 

  العرض الدعائي لفيلم ويند ريفير

 

تُرسَل كل منهما كممثل للـ(FBI) (السلطة) لحل قضايا غاية في الخطورة، لكن أول نقاط التشابه بين الشخصيتين هي مدى ضعفهما، قلة الخبرة والقوة، والمتمثلة في الأساس باختيار أنثى للقيام بالمهمة في مناطق غاية في القسوة، تجارة المخدرات عبر حدود الولايات المتحدة مع المكسيك أو منطقة ويند ريفر قاسية البرودة والخطورة.

 

لكن النقطة المثيرة أكثر للانتباه تأتي في الإطار الذي قدمت خلاله السلطة ممثلها، في حالة كايت بـ "سيكاريو" عمل ممثل الدولة -دون علمه واستغلالًا لقلة خبرته- على تسهيل قيام كيانات أخرى لا علاقة لها بالدولة بعمليات استثنائية تتخطى حاجز القانون للتخلص من "الأشرار"، تجار المخدرات قاتلي الشباب الأميركي. أما في الحالة الثانية -ويند ريفر- فإن ممثل الدولة (جين) هو من يتأثر بقسوة الموقف وفداحة الجرم فيدفع بطرف آخر (كوري) للانتقام من "الأشرار" خارج إطار القانون، إنه الاقتباس في أول التدوينة على لسانها، "أعرف"، أي: "أنا الدولة، أعرف ذلك، لكن ما ارتكبوه من جرم يستحق".

 

في الحقيقة يدفع ذلك بنا لتأمل ما يسميه فلاسفة العلوم السياسية بـ"حالة الاستثناء"، وهي حالة يتعرض فيها النظام للخطر، فتوقف الدولة سيادة القانون، وتتصرف بحرية أكبر فيما يخص حقوق المواطنين، إنها الحالة التي لا يمشي فيها النظام كما نتمناه أو كما توافقنا عليه، بزعم أن حياة الجموع مهددة.

 

في حالة كتلك، سوف تفعل الدولة كمنظومة ما يجبرك شيردن على تقبله في فيلم ويند ريفر كفرد، سوف تضغط الزناد دون الحاجة لقوانين معقدة وبيروقراطية قميئة، لا يهم إن كانت هناك ثقوب في القانون يمكن لهذا المغتصب القاتل أن يهرب من خلالها، لكن كذلك لا يهم أن تكون لديه فرصة، كإنسان، في محاكمة عادلة، فإن هذا الشخص الذي تراه أمامك ليس إنسانا، وإنما هو حيوان يستحق القتل، أو هل هو كذلك؟

 

يرى بعض الفلاسفة -أتحدث هنا عن جورجيو أجامبين- أن وجود الإنسان، مجرد وجوده، لا يعني فقط الحالة الأدنى من الحياة، الأكل والشرب وممارسة بقية الغرائز، لكن هناك استحقاقات سياسية لهذا الإنسان بحكم كونه إنسانا لا يمكن نزعها عنه، مهما كان هذا المواطن شريرا (وما هو الشر؟)، استحقاقات المواطنة.

  

حالة التوحش هي ما نسميه الحالة الطبيعية، الحالة التي يأكل الناس فيها بعضهم بعضًا، وحالة الاستثناء هي التي يمكن خلالها للدولة أن تفتقد للقانون وتعاملك بنفس التوحّش
حالة التوحش هي ما نسميه الحالة الطبيعية، الحالة التي يأكل الناس فيها بعضهم بعضًا، وحالة الاستثناء هي التي يمكن خلالها للدولة أن تفتقد للقانون وتعاملك بنفس التوحّش
 

يحيلنا ذلك إلى سؤال مهم، إذ كيف يبدأ الديكتاتور -أي ديكتاتور- حياته المستبدة؟ ببساطة، عبر سحق الأشرار، أو من تم تمثيلهم عبر وسائل الإعلام على أنهم أشرار، في حالة من حالات الاستثناء خارج إطار القانون، هنا يملأ التصفيق الشوارع، وتخرج الجماهير فرحة لأن الملك، الرئيس، الحاكم القوي، قد خلصهم من الشر وبقى أن يعيش كل منهم حياة هادئة.

  

بعد ذلك فإن ما يحدث هو أن يحول هذا الحاكم ما بقي من معارضيه إلى أشرار، فيعاملهم بنفس حالة الاستثناء، تلك الحالة التي يمكن أن يستمر الحاكم تطبيقها عبر الإلقاء بالأزمات للشعب، لحظة الاستثناء إذن ليست لحظة استثناء، بل هي اللحظة الحاسمة، هي الشيء الطبيعي والمستمر والذي سمح لهتلر بالتسبب في موت ملايين الأفراد!

 

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ذلك هو شكل حالة الاستثناء الذي نجده في كل دول العالم، سوف نسجن هؤلاء الأشرار في جوانتانامو وأبو غريب، إنهم أشرار وإرهابيون ولا حاجة لنا في محاكمات تظل عشرات السنوات، أجهز على عدوّك الآن، سوف نضع هؤلاء الأشرار في معتقلاتنا حتى ننتهي من الحرب ضد الإرهاب، انتظر قليلًا لا تتحدث عن أية إصلاحات سياسية، فأعدائنا كُثُر وأنت تعطيهم فرصة للتدخل.

 

هنا يمكن أن نسأل أنفسنا: ما الفارق بين حالة التوحش وحالة الاستثناء؟ حالة التوحش هي ما نسميه الحالة الطبيعية، قبل وجود الدولة، الحالة التي يأكل الناس فيها بعضهم بعضًا (الإنسان ذئب أخيه بتعبير توماس هوبز)، وحالة الاستثناء هي التي يمكن خلالها للدولة أن تفتقد للقانون وتعاملك بنفس التوحّش، هل يعني ذلك أن استمرار الاستثناء هو بالأساس قتل لما تعنيه الدولة؟ لا أعرف في الحقيقة، لكن، ما علاقة هذا كله بفيلمي سيكاريو وويند ريفر؟

 

undefined

 

العلاقة هو أنت، أنت من استمتع بلحظة قتل أليخاندرو لعائلة تاجر المخدرات أمام عينيه ثم قتله، أنت من اهتم بالتأكد من وفاة المغتصب في ويند ريفر، أنت من أطلق الرصاص منذ قليل عليه، لا أظن أنك فكّرت للحظة قبل أن تفعل ذلك، لقد أيدت كل خروج عن القانون من أجل قتل الشر، لكن ما هو الشر؟

 

لا أعرف، أيضًا، هل تعرف أنت؟ أخبرني، ليست لدي إجابات، أنا في الحقيقة شخص يهتم بالعلوم في الغالب ويكتب عنها، ولا أفهم في السياسة، لكن الظروف التي مرت بنا خلال السنوات الست السابقة في الوطن العربي، إن كانت قد دفعتنا لشيء واحد فقط فهو التحسس للسلطة، واستشعار وجودها في اليد المناسبة بالمعايير المناسبة، وهذا لا يحدث كثيرًا.

 

وبينما تتأجج مشاعرنا بالحماسة حينما يزحف بيتر على الثلج مسافة ستمئة قدم قبل أن يموت فنهدأ وتثلج صدورنا، يجب أن نتأمل قليلًا أن من خرج على القانون لكي يحقق العدالة، يمكن أن يخرج عن القانون في أية فرصة أخرى لاعتبارك أنت كشرير، ضد الدولة، خارج عن القانون، وتستحق ما يستحقه بيتر.

 

هل أعرض عليك إذن أن الحل هو ألا تقتله؟ لا، لكن فقط أقول إن هناك مشكلة، تناقض، نواجهه في حياتنا اليومية دون أن ندرك، نحن نؤيد قتل الجميع خارج إطار القانون عدا أولادنا وأحبابنا، أنا فقط أقترح عليك أن تعيد النظر في تعريفك لكلمات كـ "شر"، هل هو تعريف نهائي صارم محدد؟ أم يتأثر بسياقات؟ ودعني أتذكر قول بروتاجوراس الفيلسوف قبل ألف وخمسمئة سنة: "الإنسان هو المعيار".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.