ينصح المفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكافيلي (١٤٦٩-١٥٢٧م) الأمراء بقوله "هل من الأفضل أن تكون مهاباً أم محبوباً؟ الإجابة هي من الجيد أن تكون مُهاباً ومحبوباً، ولكن من الصعب تحقيق ذلك، والأضمن أن تكون مهاباً على أن تكون محبوباً، إذا لم تستطع أن تكون كليهما؟". وبعده بثلاثة قرون سيخبرنا المفكر والفيلسوف الألماني كارل شميت (١٨٨٨-١٩٨٥م) بأن السياسة هي قبل كل شيء "القدرة على استكشاف العدو".
عمل كثير من الأمراء بنصيحة "ميكافيلي" لكن النتائج لم تكن دائما كما أراده لهم، فلا حبٍ كسبوا، ولا هيبة نفعتهم حين قامت الشعوب. فبعد سنوات قليلة من صدور كتابه "الأمير" الذي ضمنه النصيحة المشار إليها، سقط أمراء الإقطاع في إيطاليا وأوروبا. كما أطاحت الثورات بالملوك الذين احتكروا الدين وحكموا بالحق الإلهي، بعدما انتصروا على باباوات الكنيسة الذين رأوا في أنفسهم التجسيد الأخلاقي والسياسي للحقيقة. وبالمثل، حاول الزعيم الألماني "أدولف هتلر" أن يعمل بنصائح "شميت"، فخاض حربه العالمية انطلاقاً من رؤية واقعية محضة تعتبر القوة العارية هي ليس فقط السبيل الأمثل، وربما الوحيد، للحفاظ على الدولة، وإنما أيضا تجسيداً حقيقياً لمعناها باعتبارها لاهوتاً سياسياً. وما هي إلا سنوات قليلة، حتى هُزم "هتلر" وانتحر بإطلاق الرصاص في فمه، وانتهت معه أسطورة النازية التي حاول أن يصنعها ويرسخها للأبد.
تثير الأحداث المتسارعة بالسعودية والتي كان آخرها حملة الاعتقالات التي طالت أمراء نافذين، ووزراء، ورجال أعمال كبارا، فضلاً عن تجميد أموال مئات القبائل والعائلات، أسئلة حول دوافع الحملة وأهدافها ومن يخططها ويقف وراءها. ظاهريا، تستهدف الحملة، كما تم ترويجه في الإعلام، "محاربة الفساد"، في حين أن ما تخفيه يحمل أكثر من ذلك ويحمل عدة سيناريوهات. فهي إما تهدف، كما قال البعض، لمعاقبة بعض الأمراء ورجال الأعمال الذين رفضوا، سراً أو علانية، المساهمة في تمويل المشروع الجديد الذي أعلنه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قبل أسبوعين ويعرف بمشروع "نيوم" الذي يحتاج ما يقرب من ٥٠٠ مليار دولار. وإما أن تكون ضربة استباقية منعت انقلاباً داخل العائلة المالكة ربما كان وقوعه وشيكاً على نحو ما ذهب بعض التقديرات. وإما أن تكون محاولة من بن سلمان لإرهاب وتخويف أعضاء العائلة النافذين ومنعهم من الوقوف في وجهه إذا ما تنازل له والده عن العرش. وإما لإرسال رسالة للخارج مفادها أنه الحاكم الفعلي للبلاد وأن بيده المنح والمنع. وإما جميع ما سبق.
وفي كل الأحوال يظل بن سلمان هو المستفيد الرئيسي من القرارات الأخيرة سواء من خلال تلميع صورته وتعزيزها خصوصاً بين الشباب السعودي باعتباره أول من حارب الفساد بعزيمة غير مسبوقة، أو تأكيد هيبته الناشئة بكسر جميع الخطوط الحمراء حتى داخل الأسرة المالكة وبين أبناء العمومة. وبغض النظر عن مصداقية الحملة الراهنة واعتبارها بحق تستهدف محاربة الفساد، وهي حجة لا تصمد أمام نظام حكم أوليغاركي عائلي لا يعرف أحد الفرق بين ميزانيته وميزانية الدولة التي يحكمها، فهي بمثابة إعادة لرسم قواعد اللعبة في السعودية ستتضح آثارها فيما بعد.
في عام ١٨٣٩ أطلق السلطان العثماني عبد المجيد الأول (١٨٢٢-١٨٦١م) مجموع من الإصلاحات القانونية والإدارية والاجتماعية عُرفت فيما بعد باسم التنظيمات العثمانية (كانت تسمي في البداية بالتنظيمات الخيرية) وذلك بهدف تحديث الدولة العثمانية واللحاق بركب الدول الأوروبية التي كانت قد سبقتها لذلك قبل قرون. وهي الإصلاحات التي جاءت استكمالاً لما كان قد بدأه السلطان محمود الثاني (١٧٨٥-١٨٣٩م) حين تولي العرش عام ١٨٠٨، وركز فيها على الإصلاحات العسكرية والحربية، واستمرت تحت أسلافه حتى نهاية حكم عبد الحميد الثاني (١٨٤٢-١٩١٨م)، آخر سلاطين الدولة العثمانية الفعليين والذي خُلع عام ١٩٠٩ بعد عدة ثورات وحركات تمرد ظهرت في مناطق مختلفة من الإمبراطورية.
شيء مشابه لذلك يقوم به بن سلمان في السعودية الآن من خلال عملية حرق المراحل التاريخية التي يقوم بها في محاولته تحديث الدولة اقتصاديا واجتماعياً، وذلك في الوقت الذي يطبق فيه الاستبداد السياسي علي المجتمع الذي لا يستطيع أن يتنفس أو أن يعبر عن نفسه بحرية. ومثلما فعل السلطان محمود الثاني ومن خلفه عبد المجيد الأول حين كانت عيناهما معلقتان بالغرب الناهض، فإن عينيّ بن سلمان تبدوان معلقتان ليس فقط بالغرب المهيمن اقتصادياً وعسكرياً، وإنما أيضا بالجار الإماراتي القريب المتغربن اجتماعياً وثقافياً والذي لم يأخذ من الحداثة سوى "إكسسواراتها" كما يسميها الصديق حسن أبو هنية. ومثلما كان هناك مستشارون أوروبيون، خاصة من فرنسا، ساعدوا عبد المجيد الأول في صياغة وتنفيذ الإصلاحات الإدارية والقانونية، فإن لدى بن سلمان وحلفاءه مستشارون أميركيون وبريطانيون (وربما إسرائيليون) يفكرون له وينصحونه.
أفضت الإصلاحات العثمانية في النهاية إلى سقوط الدولة التي استمر حكمها ما يقرب من ستة قرون، وإن كانت ثمة أسباب متعددة لهذا السقوط، إلا أن أهمها كان عدم مشاركة المجتمع وقواها وفئاته في وضع هذه الاصلاحات أو النقاش حولها، وهي التي كانت تأتي رأساً من السلطان في شكل فرمانات لا يعرف أحد كيف صدرت ولماذا ومن يقف خلفها. وقد أدت، من بين نتائج عديدة، إلى تفسخ الدولة العثمانية بنهاية القرن التاسع عشر، وظهور حركات انفصالية في مناطق مختلفة من السلطنة سواء في تركيا أو مصر أو جنوب أوروبا والبلقان. كما تجرأت أوروبا وروسيا على السلطنة وبدأوا في تقسيم أراضيها بينها بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى سُميت الدولة العثمانية وقتها بـ"رجل أوروبا المريض" الذي فقد قوته شيئاً فشيئاً حتي مات تماماً بإلغاء السلطنة عام ١٩٢٤.
لا يدرك بن سلمان، ومن خلفه، أن محاولة فرض الإصلاحات بالقوة والسرعة التي يعمل بها حالياً على مجتمع تقليدي في بنيته الاجتماعية والثقافية والقبلية قد يؤدي في النهاية إلى عكس ما يطمح إليه. ذلك أن المجتمع بحاجة لوقت طويل كي يهضم هذه التغيرات والإصلاحات المتسارعة. كما لا يدرك أن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية قد تفضي في نهاية الأمر، مثلما تخبرنا نظرية التحديث، للمطالبة بإصلاحات سياسية نتيجة لزيادة الوعي وارتفاع التوقعات لدى شرائح اجتماعية صاعدة، ما قد يؤدي في النهاية للإطاحة به وبعائلته من السلطة.
لا شك بأن بن سلمان لم يقرأ كتابات "ميكافيللي" أو "شميت"، وربما لا يسمع عن كتاباتهما وأفكارهما من قبل، لكن على ما يبدو فإن سياساته وقراراته لن يختلف مصيرها عما حدث مع سلطويات أوروبا التي سقطت غير مأسوف عليها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.