شعار قسم مدونات

عبث يدعى "مُسَاكَنَة"

blogs - home

في استطلاع للرأي ضمن تقرير تلفزيوني أظهرته إحدى القنوات بدا بعض من شباب وشابات دمشق وكأنهم مرتاحون لفكرة "المساكنة" التي راجت في مجتمعهم في الآونة الأخيرة كحل لتأخر الزواج والصعوبات التي تقف في وجه راغبيه. فكرة "المساكنة" الاجتماعية، والتي تمكّن الشاب والفتاة من العيش معاً تحت سقف واحد بلا عقد ديني أو اجتماعي، ليست جديدة في مجتمعاتنا، إنما الجديد فيها هو الدعوات المتكررة والعلنية من أصحابها ومعتنقيها لتبني الفكرة وترويجها عبر المجتمعات السورية الجديدة سواء في الداخل او الخارج.

 

غالباً ما تظهر فكرة "المساكنة" في المجتمعات المتبدلة والمتغيرة، والتي تعرض أفرادها لظروف أصعب وأعقد من التي كانوا يعيشونها، فبدأوا البحث عن بدائل لمشاكلهم الجديدة. وهنا نستطيع القول بأنه ربما تكون مؤسسة الزواج هي المؤسسة الأكثر عرضةً للضربات والتشوهات في ظل الأزمات والحروب، وما نشاهده اليوم من تفلت واضح من أعبائها والتزاماتها، سواء من الأقدمين فيها أو المحدثين، لهو خير دليل على ذلك.

 

إذا ما كنا نرفض التطرف في علاقات الزواج بأشكاله المتعددة، كزواج القصر أو الزواج الجبري، فإننا نرفض كذلك حلّ عقدة البيوت الأساسية وتحويل العلاقة الزوجية إلى مجرد لقاء وصداقة بين عاشقين ولفترة وجيزة!

تأتي الفكرة اليوم ممن يسمون أنفسهم "نخباً فكرية" كحل وعلاج للظروف الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات، وتطرح كدليل على النضوج والتأكد شبه التام من عدم الدخول في علاقة غير مدروسة بشكل كاف. واليوم، وتحت ضغط الظروف الصعبة، وفي ظل الفوضى الأخلاقية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع السوري تتهياً الفرصة بشكل أفضل لتبديل جزء من العادات وتغييرها، وتضمين عادات دخيلة ليتقبلها المجتمع دون وعي كحل جزئي لمشاكله المتراكمة. تأتي الفكرة وكأن مجتمعاتنا تواجه الأزمات والظروف الصعبة لأول مرة في حياتها، وكأن الخبرة التراكمية في أذهان هؤلاء لم تتفق إلا على فكرة انحلالية تزيد الطين بلة، وتضاعف قهر المجتمع وتفككه.

 

معظم المجتمعات العربية تعاني غلاء المهور ومصاريف الزواج المرتفعة، سواء المجتمعات المستقرة منها وغير المستقرة، الغنية والفقيرة، ذات الدخل المرتفع والمنخفض، ذات التعليم الجيد وغيره! لكن باب التطرف في كل الأمور لا يغلق بباب متطرف آخر باتجاه عكسي! وإذا ما كنا نرفض التطرف في علاقات الزواج بأشكاله المتعددة، كزواج القصر أو الزواج الجبري، فإننا نرفض كذلك حلّ عقدة البيوت الأساسية وتحويل العلاقة الزوجية إلى مجرد لقاء وصداقة بين عاشقين ولفترة وجيزة!

 

فأسوء ما في "المساكنة" هي خلوها من حس المسؤولية المشتركة التي يدعمها الزواج ويثبتها لدى كلا الطرفين، إضافة إلى تأرجح العلاقة على المدى الطويل، والتي لا تتطور إلى أسرة يتضمنها أبناء حصلوا على حقهم الطبيعي من المحبة والدفء العائلي.

فالمجتمعات قامت على الأسرة، والأسرة تقوم ابتداء على الزواج الواعي، ذي النية الصادقة في الديمومة وقبول الآخر بظروفه ومحاسنة وعلّاته، وتحمل مسؤوليات هذا الزواج، وما يترتب عليه من أعباء معنوية ومادية، أما من لا يرغب في دخول علاقة جدية وطويلة الأمد فلا يخرجنّ علينا بحلول شاذة عن قيمنا ومبادئنا.

أصحاب فكرة
أصحاب فكرة "المساكنة" يقدّمون مصالحهم الشخصية ولذاتهم الفردية على المصلحة الجمعية للمجتمع في الحفاظ على أركانه ومحاربة تشويهه وتدميره، وهذا بحد ذاته كافٍ لنقض الفكرة من أساسها

ومما يساعد هؤلاء التوجه العام في عالم اليوم الذي يتجه إلى السيولة التامة في التعامل مع العادات والتقاليد والأديان، ونبذها كلها بشرها وخيرها، ولذا نجد محاولات كثيرة للتخلص من هذا الإرث ومحاولة الانفلات التام من عقده إلى حرية تامة غير مصوغة بقانون ولا مأطرة بحدود.

 

وهذا يذكرنا بمقولة بول فاليري والتي صدّر بها زيجمونت باومان كتابه "الحداثة السائلة" والتي يقول فيها: "الانقطاع والتفكك والمفاجأة في السمات العادية لحياتنا، بل صارت حاجات واقعية لكثير من الناس الذين لم يعد يغذي عقولهم أي شيء سوي التغيرات المفاجئة والمثيرات المتجددة على الدوام، لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شيء يدوم، لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل".

 

والخلاصة في فكرة "المساكنة" أن أصحابها يقدّمون مصالحهم الشخصية ولذاتهم الفردية على المصلحة الجمعية للمجتمع في الحفاظ على أركانه ومحاربة تشويهه وتدميره، وهذا بحد ذاته كافٍ لنقض الفكرة من أساسها، فصون مجتمعاتنا وحمايتها من العبث هو غاية بحد ذاته، فالحقيقة أن جزءاً أساسياً من نهضتنا هو في الحفاظ على منظومتنا القيمية والأخلاقية، والولوج من خلالها إلى عالم الحضارة والتقدم، لا أن نقوم بتدميرها والسعي وراء سراب مادي فردي يوهمنا أدعياؤه بأن الحضارة تلف جانبيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.