شعار قسم مدونات

علم التأويل.. الطريق الأمثل لفهم وتحليل النصوص

blogs - كتب قديمة 5
بدأت الهيرمنيوطيقا، (علم التأويل)، كمصطلح قديم طريقه داخل دوائر الدراسات اللاهوتية العامة كجهاز من القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني، وظلت آلية داخلية متعلقة بالنص الديني وبالخصوص عند اللاهوت البروتستانتي لمدة من الزمن، حتى أتى المفكر الألماني الشهير في أوساط رواد الهيرمينوطيقا، "شلاير ماخر" الذي نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي ليكون علما ودربة لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص.

ومجمل نظريات هذا المفكر متركزة على أساس أن النص هو وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، وبالتالي فهو يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة بكاملها، ويشير في جانبه النفسي إلى الفكر الذاتي لمبدعه، والعلاقة بينهما جدلية صرف، وأنه كلما تقدم النص في الزمن كلما زاد غموضا وتعقيدا في الفهم بالنسبة لنا، وصرنا أقرب إلى سوء الفهم منه إلى الفهم، وعلى ذلك لا بد من قيام علم يعصم القارئ من سوء الفهم مهما تقدم الزمن، لذا ينطلق شلاير ماخر لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانبي النص، اللغوي والنفسي، فيحتاج المفسر للنفاذ إلى معنى النص إلى موهبتين؛ الموهبة اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية. 
فهناك وفي أي نص جانبان – جانب موضوعي يشير إلى اللغة، وهو ذلك المشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة ومتوقعة، وجانب ذاتي يشير إلى فكر المؤلف وتصوره ويتجلى في استخدامه الخاص للغة. وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلف التي يسعى القارئ إلى بنائها بغية فهم المؤلف أو فهم تجربته دونما احترام لأوليات الاعتبار؛ بمعنى أنه يمكن للقارئ أن يبدأ من الاستعمال الخاص للغة كما يمكنه أن يبدأ من الفهم المشترك فكليهما يؤدي إلى الآخر.

بعد مخاض عسير ولدت لنا الهيرمينوطيقا من داخل الرحم الفلسفي، ليكون المولود المنهجي الأوحد الذي استطاعت أن تربيه وتطعمه حتى اشتد عوده
بعد مخاض عسير ولدت لنا الهيرمينوطيقا من داخل الرحم الفلسفي، ليكون المولود المنهجي الأوحد الذي استطاعت أن تربيه وتطعمه حتى اشتد عوده
 

والعملية تتأسس على إعادة القارئ بناء تأريخية موضوعية للنص، وهي عملية تعتد بكيفية تصرف النص في كلية اللغة، وتعتبر المعرفة المتضمنة في النص نتاجا للغة، ولهذه البداية جانب آخر، وهو ما يطلق عليه شلاير ماخر إعادة البناء التنبؤي الموضوعي، وهي تحدد كيفية تطوير النص نفسه للغة.

وللبدء من الجانب الذاتي كذلك له جانبان، الأول إعادة البناء الذاتي التاريخي، وهو يعتد بالنص باعتباره نتاجا للنفس، أما الجانب الثاني وهو الذاتي التنبؤي فهو الذي يحدد كيف تؤثر عملية الكتابة في أفكار المؤلف الداخلية. غير أن أهم مؤاخذة على هذه النظرية هي أن شلاير ماخر يضع قانونا لتفسير النص مطالبا القارئ من أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخي الراهن ليفهم النص فهما موضوعيا تاريخيا، حالا نفسه محل المؤلف، وطبعا ثمة استحالة في حصول ذلك.

فتفجير مكامن الخطاب واستنطاقه شكل دائما هاجسا فكريا عند الفلاسفة بمجموع مشاربهم، اهتموا بالأساطير وبالخطابات المقدسة وبالحكايات والمرويات والرموز والطقوس بحثا عن المعنى، وعلى طول تاريخ الفلسفة والتي تلازمت مع ظهور البشرية؛ شكلت المفكر فيه والمعول عليه في التأسيس النظري، لكن التعامل مع الخطاب بدون آليات علمية كثيرا ما جعل بعض الخلاصات تكون غير صائبة بل ومحرفة لأصل المعنى، مما حذا بثلة من الفلاسفة والمفكرين إلى فهم الفهم بدل الفهم لوحده؛ حتى يخلقوا له ضوابط علمية إلى أقصى الحدود لتشكل عقالا إبيستمولوجيا لذوات الفلاسفة ولمرغوباتهم، حتى لا تنقلب الفلسفة، ولدقة تصل حد العماء والخواء الوجودي. فعملوا على التنظير لعملية الفهم وإيجاد الصيغة السليمة.

وبعد مخاض عسير ولدت لنا الهيرمينوطيقا من داخل الرحم الفلسفي، ليكون المولود المنهجي الأوحد الذي استطاعت أن تربيه وتطعمه حتى اشتد عوده، واختارت له من الأسماء الهرمنيوطيقا تيمنا بإله التفسير هرمس، اكتسى هذا الهجاس العقلي مكانة متميزة في التفكير الفلسفي لما له من مبررات تعيله على ذلك، بل وصل به الحال إلى أن مس بالعلوم والمجالات الأخرى كالعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ومن هنا نقول إنه لا تكمن عتبة التفكير الهيرمنيوطيقي في تبيان وجود حلقة الفهم وإنما كيف تنطوي هذه الحلقة على دلالة أنطولوجية إيجابية، يبدو أن هذا الوصف كما هو بديهي لكل مؤول يعي جيدا ماذا يصنع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.