في الصفِّ السادس الابتدائي، كنتُ طالبًا جيدًا، ينتمي إلى مدرسة (مصطفى حافظ الابتدائية) في مدينة خان يونس الفلسطينية، وكان تحصيلي الدراسي في الأعوام التي سبقته لا يقل عن معدل 87 بالمئة، وأعترف أنني لم أكن أقرأ إلا ليلة الاختبار، ولم أُمسِك الكتاب المدرسي يومًا في وقتِ النهار.
دائمًا ما كان أساتذة الفصول يحذّرونا من هذه المرحلة، "فأنتم مُقْبِلون على صفٍ فيصليٍ مرحلي"، أجل، كنتُ مرتعبًا من انتقالي للصفِ السادس، ولشدة رعبي لم أهنأ بمعدلي الجيّد في الصف الخامس، فأخبرتُ والدتي أن تجلب إليّ كُتب الصف السادس من مدرستها كونها تشغل منصب نائب مدير، لأدرسَ المواد المقررة في فترة العطلة الصيفية، فَفَعلتْ أمي ذلك بصدرٍ رحب، وكالعادة، جلبت إليّ الكتب ولم أدرس شيئًا!
بدأَ الدوام المدرسي، وكنتُ من أشدِّ الكارهين لمادة اللُّغة العربيّة، فلم أكن أستسيغ بحور الشعر القاطبة، ولا أُجيد تحليلها النحوي البتّة، ولطالما كانت هذه المادة "عقدة" بالنسبةِ إليّ، ولَكَمْ أودت بدرجاتي إلى الحضيض، إلا أنني كنتُ وفيًا لدفتر التعبير، ودائمًا ما أبرع في كتابة النصوص الإبداعية.
في تلك الفترة.. كان هناك معلمٌ فاضلٌ، طويلُ القامة مثلي، وطويلُ الهامةِ على عكسي، وفيٌ للَّغةِ العربيّة لدرجةِ أنه يصفع الطالب على وجهه ويجلدهُ على أصابعه بخيزرانته التي تبلغ متر ونصف إن أخطأَ في إعرابِ الأساسيات. كرهتهُ كرهًا عابرًا، وصنّفته في مخيّلتي -كالمتطرفين-، رغم أنه كان يحبني في جوفه، ولا يحرجني بأسئلة النحو الصعبة عند طرحه للأسئلة، فكانَ من أشدِّ الفاهمينَ لشخصيتي الطفولية، وإبداعاتي الكتابية التعبيرية.
في حصةٍ من الحِصص الأسبوعية، عرضَ علينا موضوعًا تعبيريًا عن الحريّة، وطالبنا أن نكتب فيه على مدار نصف ساعة من وقت الحصّة المخصصة له شرعيًا، فكتبتُ له نصًا فائق الجمال "كما ظننت"، إلا أنه جلس على كرسيه ليصحح دفاترنا، فبحث عن دفتري ليصححه كأولِ دفتر. نادى عليّ بالخروج إلى السبورة، فظننتُ بثقةِ (المغرور) أنه أخرجني ليمدح حروفي أمام الطلاب، كأُنموذجٍ جميلٍ للنصِّ القويم، إلا أنني فوجئتُ بمطالبته مدّ أصابعي! مددتُ أصابع يدي العشرة بجوار بعضها، وتلقيتُ عقابي الشديد، فما كان به إلا أن يضربني بضراوة الملمح الكالح، وبأقسى ما لديهِ مِن قوّة، وعدتُ إلى مقعدي حاملًا دفتري وصِفري بأطرافِ أناملي المتورِّمة.
ممتنٌ له أن أصْلَبَ قوامَ مبادئَ فِطرتي قبل لُغتي، وأُهديه بحثي وقلبي وحروفي شاكرًا منحنيًا |
تساءلتُ في سريرة نفسي: لماذا عاقبني؟ ألم أشعر بكرهه لي؟ أم أنه كما يقول الطلبة بكون زوجته "منكدة عليه عيشته وجاي يفش خلقه فينا من الطريق؟!" صبرتُ كثيرًا حتى انتهى وقت الحصة، وعِند دقّ الجرس، تلفَّظَ باسمي، فارتعشتُ رعبًا، ماذا بعد يا ترى؟ وإذ به يخبرني أن أحضر إلى مكتبه بعد أن أتناول طعامي في وقت الاستراحة. امتنعت عن تناول وجبتي رغم كوني متضورًا مِنَ الجوع، وذهبت لمكتبه، وسألني قائلًا: "بتعرف ليش عاقبتك رغم إنك مبدع بكتابتك؟" أجبته متعجبًا: "لا يا أستاذ". فقال لي: "لأنك حاط نقطة في نهاية كل فقرة، لكن ناسي تحطها في نهاية النص الأخير". هذا السبب المقدّم جعلني أرتعش فطريًا حتى هذه اللحظة التي تقرؤون فيها حروفي، فغدوتُ مِن بعدها مؤمنًا بأنّ عقابه لم يكن بطشًا، إنما كان تهذيبًا لُغويًا.
أعلمُ أنّ الكثير ينبذون ظاهرة التعنيف الدراسي، وأنا منكم ومعكم أيضًا، وأتفقُ على تلك النظريات التي تدّعي وجود بدائل علاجية أخرى تخضع للعادات الاجتماعية، أكانت نفسية أو سلوكية، لكن يجب عليّ الاعتراف والاقرار بأنّ ذلك العقاب الذي أخذتهُ مِن معلّمي لم يخلق لي وازعًا سلبيًا، بل دفعني للاهتمامِ بكلِّ حرفٍ، والوقوف للتدقيقِ عندَ كلِّ ناصية.
ها أنا اليوم في السنة الجامعية الرابعة مِن دراسة الإعلام، أكتبُ "بالمانشيت" العريض رسالة بحث تخرّجي، وأُهديها على وجهِ الخصوص لذلك المعلّم الذي غضّ الطرف عن إجابة دفتري الصحيحة، وعاقبني على نسياني وضع تلك النقطة في نهاية الجملة.
ممتنٌ له أن أصْلَبَ قوامَ مبادئَ فِطرتي قبل لُغتي، وأُهديه بحثي وقلبي وحروفي شاكرًا منحنيًا، وأقول له: "يا سيّدي.. لم أحبكَ وحسب، بل لأجلكَ أحببتُ العربيّة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.