نزح الصبي الضّلّيل في عطلة الصيف إلى طرف البلدة الشمالي، ولسان حاله قول الشاعر في إحدى قصائد كتاب القراءة: حَضَرَتْ رَحليَ الهُمُومُ فَوَجّهْــتُ إلى أخضر الحدائق عُنْسِي.
استوطن في كروم العنب، ووجد فيها فردوسه المفقود. هرب من كل شيء لاجئاً إلى جوار أمومة الطبيعة: أشجار وطيور ومياه وأعناب وجواد كهل لا يزال قادرا على الجود ويشكو بعبرة وتحمحم.
أحضر معه رزمة من مغلفات الرسائل، وأوراقا للرسائل ملونة، عليها طيور وباقات زهر وبحيرات فيها زوارق، سيرسل رسائل إلى بريد الأصدقاء في مجلات ميكي وسمير وتان تان وأسامة، حتى يكون حرضاً، أو يكون من الهالكين. عضّ أصابعه ندما لأنه لم يسأل معلمته مهاة عن عنوانها، لقد مضت، بعد انتهاء العام الدراسي، ولا سبيل لمعرفة عنوانها.
كانت حديقة الكرم مقسومة إلى أربعة أقسام بين والد أحمد قرمجي وأعمامه الثلاثة، وكان أكرم قسم فيه، القسم الأول المسوّر بأشجار اللوز والفستق يحمي حدود الكرم ويحدّه من جهة الوصول إليه من طرف البلدة من حصة أبيه. وتليه ثلاثة أقسام موزعة بين الأخوة الأربعة. للبلدة رئتان من الكروم، رئة في الشمال وأخرى في الجنوب. أحمد قرمجي سيناوب في دكان أبيه، ووصّى به ناظر الكرم. بينهم قرابة، بل بين كل أبناء هذه البلدة قرابة تشتدّ أو تضعف.
ينظر الصبي الضّلّيل إلى الهدهد: بيني وبين هذا الطائر قرابة وثأر.
أوصاه سينو: إياك والهدهد أيها الغلام، للهدهد عشٌّ في هذا الوادي، وقد تعثر عليه وتطمع في الإغارة على وكنته، هذا طائر الأنبياء يا يابس الرأس.
هرب ذو القروح من دبق الملل، ومن جور الأم والأب والواجبات وجداول الضرب الصيفية، وطنين الذباب، واختار الركن الغربي من الكرم، تحت شجرة نائية من أشجار اللوز العريقة المعمرة، يتفصد من عروق الشجرة صمغ لونه لون الماء براق، تشبه رائحته ريح الماء الدافق من بين الصلب والترائب، فكأنها شجرة بشرية، تسمق على ربوة ذات قرار تطل على البركة الكبيرة التي تعترض النهر المحاذي، فتلتقي فيها المياه على أمر قد قُدِّر، وتقفز منها أسماك الشبوط بين الحين والآخر لقنص فراشات طائرات ويعاسيب حوامة. بلدة طيبة ورب غفور.
كان الكرم يبعد مسافة خمسة فراسخ عن البلدة، نائيا على تخوم الحدود التركية، يفصل بين الحدين السوري والتركي الخط الحديدي |
جعل الشجرة منزلا ومقاما، ومهّد تراب الأرض تحت الشجرة مهداً، وصنع ما يشبه وسادة، فصار عرشا ًمن الرمل الناعم. كان يستلقي على سجادة عتيقة، ويراقب النهر الذي كان يلفظ سكرات الماء الأخيرة والطيور … التي تثير غيظ الغائظ.
سأل معارفه كثيرا عن أسباب احتضار النهر؟ ستموت الأسماك والضفادع، وتهاجر اليعاسيب والفراشات والخفافيش وطيور السنونو التي تطير فوقه وتقتنص الحشرات، وتعطش حجارة الوادي… النهر هو دم البلدة، إذا انقطع مات كل شيء، سأل الآباء المدمنين على المقاهي، التي تكثر فيها الأخبار، ويتبادل فيها الكبار حكمة المعارف، والخبرات مع قعقعة أحجار النرد، بين جنبات صناديق اللعبة المفضضة، فقال له أحدهم:
تركيا قررت أن تحجب النهر، النهر ينبع من عندها، النهر نهرها. الترك بنوا سداً عليه، وقد وضعوا جدولا زمنيا لحبس المياه، هذه هي الأسباب.
لا أحد يبالي، أخبره الرجل بالخبر، وكأن الأمر لا يعنيه، أضاف: السماء لم تعد تمطر، إنها بركات الحركة التصحيحية المباركة، لا تأتي المصائب فرادى.
لو تترك تركيا عيناً صغيرة، جدولا، دمعة مثل مياه الحنفية. ينظر إلى الهضبة المقابلة للكرم على الطرف التركي من الحدود، فيرى صورة لرجل يحمل بندقية كبيرة موجهة إلى السماء، من هذا الرجل الذي تحتل صورته الهضبة؟
فيأتيه الجواب: كمال باشا. هذا أتاتورك، أبو الترك، مدمّر الخلافة العثمانية، وصانع الجمهورية التركية القبحة. هذا الرجل حارب السماء ولا يزال.
– أب لشعب كامل؟ لم أسمع في حياتي بأبِ لأكثر من مائة نفر، لابد أنه فحل؟
كان الكرم يبعد مسافة خمسة فراسخ عن البلدة، نائيا على تخوم الحدود التركية، يفصل بين الحدين السوري والتركي الخط الحديدي. يقبع الصبي الضّلّيل على التلة تحت ظل اللوز، نهاره، ولا يرى أحداً سوى الطيور والعظاءات والسمك والنهر والضفادع… أكثر ما يثير لوعته هو الهدهد، الطائر المبارك، لو ظفر به، سيطلقه، لا يريد به شرا، فقط يريد أن يلمسه لمسة واحدة ثم يحرّره.
يأتي الناظر، "ناطور" الكرم الذي جاء اسم مهنته من النظر والانتظار بعد تصحيف، مرة ًفي اليوم. بنى الأعمام له غرفتين صغيرتين من الطين، إحداهن أكبر من الأخرى بقليل، على التلة المشرفة على النهر، وحفروا له بئرا. يأتي سينو ويقطف بعض الأعناب، ويصفها في سلال على عربة بعجلتين، يجرها حصان كهل حزين غير أصيل، ويقصد المدينة. ينوب ابنه الشاب مظفر عنه أحيانا في النظر والانتظار. للشياه راع وللنوق راع وللشجر راع. سينو هو راعي الأشجار.
النهر يجف يا عم سينو … هل من إسعاف ونجدة؟
فيقول العم: كل شيء هالك إلا وجهه.
نبًّه الصبي أن يأخذ حذره من الثعابين، وأوصاه ألا يتحرش بطيور الهدهد، قتلها نذير شؤم، ومضى على عربته ذات العجلتين.

يجوع الصبي، فيقصد الغرفة ويوقد "بابور" الكاز ليحضّر الشاي، ويأكل الخبز مع الشاي الساخن المحلّى على وجبتي الفطور والغداء، ويعود مع الغروب إلى الدار. يتناوله مع جبن متحجر مالح، فيجده على الجوع لذيذاً. العنب كثير، ولا يزال لديه زبيب من العام الماضي في الأكياس، يأكل ويعود إلى عرشه تحت الشجرة ليشرف على موازين الوجود الكبرى: البحيرة، والكرم، والنهر، والطيور العابرة. يضجر فينزل ويجمع الحجارة المصقولة الناعمة في قاع النهر الضحل، من أجل لعبة "اللاكة"؛ وهي تشبه البولينغ الشهيرة، لكن كراتها حجارة قرصية مختارة من الرقائق بحجم الكف، وأحسنها ما كان ناعم الوجهين، مساحتها مثل الرغيف الصغير، متساوي السمك، ومنضد مثل قرص العيد أو رغيف لحم العجين، ثم يجتمع الصبية، فيعمرون الحجارة مسلة وطوابق، ويبتعدون عنها أمتاراً، ويقذفونها بحجارة في أيديهم من جنس الحجارة المصفوفة، والرابح هو الذي يسقط أكبر عدد من الحجارة.
هناك لعبة أكثر تشويقا هي الجيخا: تشبه الكريكيت، وفيها يرسم الأولاد دائرةً، ويضعون في مركزها بيضةً حجرية مدورة، يحرسها حارس مرمى، ويرسمون خطا يسمونه خط التماس، وخطاً هو خط القذف، ويرسمون عتبة، ويقذفون بالبيضة الحجرية أقراص الحجر المتراكبة ليطيحوا بها خارج الدائرة ، بعيدا، وكلما أبعدت البيضة الحجارة أكثر كان أحسن للقاذف وأسوأ للحارس، والرابح من بين الرامي والحارس من كان أسرع؛ الرامي بوضع قدمه على قرصه الحجري والحارس بإعادة بيضته إلى الدائرة، وفي اللعبة أناشيد ومسجوعات لغوية ظريفة، ينتخب الحارس عادة بقرعة القياس بالقدم .
يقول الأول: أز دروشيم، قال وقشيم، روشا إينه، ته دقليشم
فيردُّ الثاني: أز ياسينم ، كير مسينم، روشا إينه، ته دخسينم.
يردد اللاعبان المسجوعات، وهما يقتربان من بعضهما قياسا بالأقدام، فإذا تلاحما، وركبت قدم اللاعب على قدم الحارس كان الأول هو البادئ باللعب، والثاني هو الحارس. الحارس مرذول.
الصبيان المغيرون على الكروم قلة، ولكل بستان زكاة وصدقات، أما سرقة العنب بغرض التجارة، فمحرمة |
بعد سنوات رأى الصبي مسلسل سندباد الذي صنعه يابانيون من حكايات عربية، وهندية، وعالمية، وحبكوها في عروة واحدة، ومنها تلك الحلقة التي يجد سندباد نفسه وزميلين في جزيرة يجري فيها نهر من الجواهر، بعد غرق سفينتهم. يقرّر سندباد وأحد الزميلين مغادرة الجزيرة بعد فترة، شوقا إلى الأهل، فالجواهر لا تعني شيئا في جزيرة ليس بها بشر، فيصنعان طوافة، لكن الثالث يأبى التخلي عن الجواهر، ويمكث في الجزيرة. الكرم كان جزيرة الصبي الضّلّيل، والجواهر كانت حجارته. كل مساء يخلع نعله، ويقصد الجدول، وهو في أعلاه مبسوط يمشي على الحصى، فلا يبلغ الماء الضحضاح كعب القدم، وما أن يجاوز الكرم حتى يتحول مجرى النهر ويصير عميقا أخدودا، وممرا لإنسان أو اثنين.
ينصب الصبي الضّلّيل ذو القروح شرك عصافير البر، وهي عصافير أكبر من عصافير البلد البليدة، وأشرس، منها عصفور الثور المخطط، وعصفور الباشق، والعصفور الضبع، والعصفور الثعلب، والعصفور المحنى الرأس، وهزاز الذيل، والعصفور الوثاب، الذي يطير في موجات، وهي عصافير تدافع عن نفسها بالعض إن وقعت في الأسر. يخفي الفخ تحت التراب، قريباً من الشجرة، ويضع في إبرته دودة ذهبية، ويمضي للبحث عن جواهر الحجارة، وما يلبث أن يسمع صفير الإنذار: زعقة عصفور مغدور، فيركض إليه، ويحرّره من فكي الفخ حتى لا يختنق، ويضعه في السلة. قضي الأمر أيها العصفور، سيكون مصيرك الشي على النار.
يجمع الصبي كثيراً من الحجارة الناعمة الملساء كخد العذراء في خدرها، ويقتل في طريقه ذاهبا أو عائدا كثيرا من الضفادع، يتسلى بصيدها، أحيانا يقتل بالرمية الواحدة ضفدعين، فيفسد عليهما متعة السفاد، أكثرها حذرا يقفز في النهر إذا أحس بدبيب الآدمي، ويختفي تحت غشاوات الطحالب ناجيا.
سأل الصبي سينو:
– لمَ سمي بوادي عنتر. ما شأن عنتر بهذا الوادي؟
يستغرب العجوز السؤال، ويفكر ثم يقول: لا أعرف!
– الوادي دائرة قطرها يبلغ المائة متر، كأنما رسمت بفرجار الهندسة، ورملها ناعم، يمكن التزلج عليه مثل الثلج، هل تعرف سبب هذا يا عم؟
أجاب مظفر على السؤال بعد أيام: وادي شجاع، مثل عنترة، لعل نيزكاً سقط من السماء فكوّنه، أظنّه وادياً مباركاً أيها اليربوع.
ولكن قطع الحليب عنها من الضرع التركي سيقتلها عطشا.
– ستبقى مباركة، من سيول الجبال. لن تموت، ستعيش في الشتاء، وتنام في الصيف.
ينتبه سينو إلى أن الصبي قد خطف الحصان، ومضى به في البرية خببا، يهتف به: لا تقترب من الحدود التركية، سيقنصك الجنود الحرس.
يعيش متعة حرية أبطال أفلام الكاوبوي، فيلم "شالاكو"، فيلم "إذا أردت أن تعيش فاقتل"، فيلم "جوليانو جيما". عرش على النهر، ظل وارف، عصافير، حجارة أجمل من الدّر. حرية من بأس الأهل، وصياحهم، وبؤسهم. هيتَ لك أيها الصبي الضّلّيل.
الصبيان المغيرون على الكروم قلة، أوصاه العجوز: لكل بستان زكاة وصدقات، أما سرقة العنب بغرض التجارة، فمحرمة، وعليك بمقاومتهم.
قال الصبي: سأقلع عيون اللصوص بمقذافي.

لم يُغر أحد على الكرم، مرَّ عابرون وقطفوا عناقيد ومضوا، صف من العنب الرازقي، العنب الحلواني، المرزونة، العنب الأسود، كلها أعناب لذيذة، عنب أولها هو المرزونة ذو القشرة الناعمة، لم يكن الصيف قد انتصف حتى ظهر الغزاة من نيزك الحكومة الجديدة. غزاة لا يطمعون في عنب أو في لوز.
انتبه من حلمه جِفلا، فوجد جرارا يجر عربة مقطورة، يعرف الجرار، ويعرف سائقه، كان مع السائق رجل يجلس على غطاء الدولاب الكبير الخلفي، ويقترب من البركة. وصل الجرار إلى الوادي، ثم أدار ظهر العربة، ونزل هو وصاحبه، واتجها إلى الوادي، وبدأا يفرغان حمولة العربة الطويلة من زبالة البلدة في الوادي المبارك.
يا لثارات كليب.
نزل الصبي واتجه إليهما غاصبا، كما لم يغضب قبل. وبادرهما من غير تحية:
ماذا تفعلان؟
– نفرغ الزبالة.
– تفرغونها في الوادي وتلوثون المياه؟
– أوامر البلدية الموقرة.
كاد أن يبكي: لمَ في الوادي؟ للبلدة ثلاثمائة وثلاث ستون جهة، أفرغوها في إحداهن. أفرغوها في فروج أمهاتكم، فروج أمهاتكم جهة أيضا.
لم يردا عليه، ووقف ينظر عاجزا، لقد قرر رئيس البلدية الجديد بعد الحركة التصحيحية المباركة أن يجعل بركة الوادي مكباً لقمامة البلدة!
أفرغا الحمولة، واتجها عائدين لحمولة أخرى من الزبالة، تاركين خلفهما أكياسا متطايرة، وروائح جثث جرذان وقطط ميتة، وجيشا من الذباب. لمح خفقا من الريش تحت شجرة اللوز في أعلى الهضبة، لقد علق طائر في الفخ، في العادة الصياد الماهر يمكث قريبا من الفخ، حتى لا ينجو الطائر من الأسر، فيطير، أو قد يقتله الفخ إن أطبق على عنقه، لم يجد الصبي الضّلّيل رغبة في نجدة الطير، مشى ببطء، وكأنه يجرّ جثة، بعد فترة وصل إلى الفخ.
كان قد صاد للمرة الأولى، طائر الهدهد المبارك، مدّ يده إلى الهدهد، وانتشله من فكي الحديد، كان قد اختنق. لا كرامة لطائر النبي.. نظر إلى كومة الزبالة التي أهدها الحزب الحاكم الجديد، وهي تتطاير في الوادي، أكياسا وريحاً نتنة، وتنتشر في أنحاء الكون الستين وثلاثمائة وثلاثة.
كبا على ركبتيه مثل مطعون، ويحك لقد قتلت ساعي بريد النبي سليمان عليه السلام.
ضاعت رسائله كلها عبثا.
حفر اليربوع ببراثنه الأرض، ودفن الطائر المغدور الشهيد، الذي حمل أكرم رسالة من النبي سليمان، الذي أوتي ملكا لم يؤت مثله أحد من العالمين، إلى أجمل ملكة وأكرمهن: الملكة بلقيس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.