"شيطان" العدالة والتنمية المغربي

blogs - بن كيران
لأول مرة منذ نشأته قبل 20 عاما يجد حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المغربي نفسه أمام مفترق طرق كبير بسبب حدة الخلاف بين قياداته التي خرجت إلى العلن وقد تؤدي إلى إضعاف الحزب إن لم تنته بانشقاقه. هذا الوضع وصفه أحمد الريسوني، الأمين العام السابق لحركة "التوحيد والإصلاح"، الذراع الدعوي للحزب، بأنه "غير طبيعي وغير صحي ولا يتناسب مع ما عرف عن أعضائه من مبادئ وأخلاق"، ومحذرا مما وصفه "اختراق الشيطان وأهواء النفوس".
 
الأسباب الظاهرة لهذا الخلاف تُختزل في الموقف من التمديد لعبد الإله بنكيران، الأمين العام الحالي للحزب. فالقانون الداخلي للحزب يحدد ولاية الأمين العام في عهدتين اثنين، لكن لجنة تقنية داخل الحزب أقدمت مؤخرا على تغيير هذا البند لفتح الباب لولاية ثالثة للأمين العام الحالي، وهو ما أدى إلى خروج الخلافات بين قيادات الحزب إلى العلن.

هذا التعديل وضع الحزب أمام واحدة من أصعب الأزمات التي تهدد وحدته بعد أن بات يخترقه تياران، تيار التجديد لبنكيران، وتيار معارض لهذا التجديد، يقوده قياديون داخل الحزب أغلبهم وزراء في الحكومة الحالية التي يقودها حزبهم، ولذلك يطلق إعلاميا في المغرب على هذا التيار اسم "تيار الوزراء"، يدعمه ويسنده من الخلف قادة بارزون في حركة "التوحيد والإصلاح"، الذراع الدعوي للحزب.

المؤيدون للتمديد أو التجديد يفعلون ذلك انطلاقا من مبدأ أن استمرار بنكيران على رأس الحزب سيقوي وجوده داخل الساحة السياسية، ويرفع من أسهم شعبيته، وسيحافظ على استقلالية قراره، ويبررون ذلك بالوفاء للثقة الشعبية المعبر عنها في انتخابات 2016، والتي بوأت حزبهم المرتبة الأولى في المغرب، ويرون في التمسك بزعيمهم الذي قاد الحزب في محطات صعبة بمثابة نوع من رد الاعتبار له بعد إعفائه من طرف الملك من رئاسة الحكومة، وفي ذلك أيضا جواب سياسي على قرار الإعفاء المهين لأمينهم العام.

سبق وكتبت أن ما فشل هو النموذج السياسي للحزب، القائم على نظرية
سبق وكتبت أن ما فشل هو النموذج السياسي للحزب، القائم على نظرية "الإصلاح التدريجي من الداخل"، وعراب هذا المنهج هو بنكيران، ونجاح الحزب في الانتخابات لا يمكن أن يغطي عن فشله الذريع

المعارضون للتأييد يرون أن التمسك ببنكيران الذي أعفي من رئاسة الحكومة بقرار ملكي سيرسل إشارات خاطئة لصاحب القرار في المغرب، على افتراض أن قرار العفو الملكي هو بمثابة "غضب ملكي" على زعيم الحزب، ويبرر هؤلاء موقفهم بحرصهم على تجنيب حزبهم أي تصادم مع القصر الملكي، وبدفاعهم عن ديمقراطية الحزب الداخلية التي يجب على الجميع أن يخضع لها بما في ذلك الأمين العام للحزب.

وما بين هذين الموقفين الحديين، يوجد موقف غامض هو موفق الأمين العام نفسه، أي بنكيران، الذي بسببه يجد الحزب اليوم نفسه أمام مفترق طرق كبير، فهو لم يخرج حتى الآن بموقف يوضح ما إذا كان يريد الاستمرار على رأس الحزب لولاية ثالثة أم لا. وهذا الغموض في الموقف هو الذي يترك الباب مفتوحا أمام كل الاحتمالات، ويجعل من مؤتمر الحزب، الذي سيعقد في شهر ديسمبر / كانون الأول المقبل، محطة حُبلى بكل المفاجئات.

لكن وراء هذا الخلاف الظاهر حول نقطة تبدو "تنظيمية"، نجد أن كلا الفريقين متفقان على نفس المنهج الذي سار عليه الحزب منذ تأسيسه، ألا وهو مبدأ الإصلاح التدريجي من الداخل بعيدا عن أي تصادم مع القصر. وإذا كان هذا الموقف الإستراتيجي مازال يوحد الفريقين فإن خلافهما لا يمكن اليوم توصيفه إلا بأنه ذا طبيعة شكلية تغذيه طموحات شخصية وتؤثر فيه جهات خارجية داخل الدولة العميقة في المغرب التي لا تريد لأي حزب سياسي كيفما كان ولائه للقصر أن يتقوى شعبيا وأن يصبح مستقلا في قراره السياسي.

فلطالما وصف حزب "العدالة والتنمية" المغربي بأنه متماسك داخليا، وذلك بفضل ثلاثة عوامل، أولها وحدته الداخلة وتماسك صفوف مناضليه التي ظلت محصنة من كل أنواع الاختراق وفي أصعب المراحل التي مر بها الحزب، إلى أن تمكن مؤخرا "الشيطان" من اختراق هذه الصفوف!
العامل الثاني الذي حصن الحزب هو ديمقراطيته الداخلية التي كان يضرب بها المثل في حرية التعبير عن الرأي والانضباط للقرار في نفس الوقت.

أما العامل الثالث فيٌعزى إلى المرجعية الإسلامية للحزب، وقد لعب الجناح الدعوي داخل الحزب ممثلا في حركة "التوحيد والإصلاح"، دورا مهما في الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه من خلال الترويج لقيم الوحدة والتماسك والتضامن.

ممارسة النقد الذاتي لا تعني تخلي حزب العدالة والتنمية عن منهجه الإصلاحي، وإنما التفكير في البدائل والمواقع التي قد تساعده كي يكون قادرا على التأثير أكثر والمساهمة الفعلية في الإصلاح

وطيلة مسيرته لم تنل كل الأزمات سواء منها الداخلية أو الخارجية التي مر بها الحزب من وحدته، حتى أثناء فترة الحراك الشعبي في المغرب عام 2011، عندما اختلفت الآراء بين أعضاء قيادته. فبينما اتخذ عبد الإله ينكيران موقفا معارضا صارما لذلك الحراك وهاجمه علانية في تجمعاته الخطابية، اختار بعض أعضاء الحزب القياديين النزول إلى الشارع ودعم الحراك الشعبي ولو من الباب الرمزي وقدموا استقالاتهم من "الأمانة العامة" للحزب.

والمفارقة اليوم أن من نزلوا بالأمس إلى الشارع لدعم الحراك الشعبي، هم الذين يعارضون اليوم بنكيران الذي يخوض مقاومته ضد السلطة باسم الدفاع عن "الإرادة الشعبية". وبينما أصبح مؤيدو بنكيران ينعتونه بأنه يمثل "كبرياء الشعب"، وهو الذي هاجم بالأمس القريب حراك الشعب، أصبح ينظر إلى خصومه داخل حزبه بأنهم "انبطاحيون" لا تهمهم سوى مصالهم والحفاظ على مقاعدهم داخل الحكومة.

الجديد اليوم في الخلاف الداخلي داخل "العدالة والتنمية"، هو خروج حركة "التوحيد الإصلاح"، الذراع الدعوي للحزب، عن حيادها المعتاد بعد أن تحولت إلى طرف في الصراع بين أعضاء قيادة الحزب، عندما اصطفت إلى جانب "تيار الوزراء" وضد الأمين العام للحزب.

وليس غريبا على هذه الحركة تغيير مواقفها أو تناقض تلك المواقف كما فعلت بالأمس القريب عندما دعمت نفس الأمين العام في معارضته لحركة 20 فبراير، التي مثلت النسخة العربية لـ "الربيع العربي"، وفي نفس الوقت دعمت الحراك الشعبي في بلدان هذا الربيع.

وتكبر الدهشة عندما نجد أن السلطة وإعلامها الذي كان دائما يتهم الحزب بإزدواجية خطابه وبالجمع ما بين الدعوة والسياسية، لم يلتزموا فقط الصمت وهم يرون أكبر تدخل للجناح الدعوي في قرارات الحزب، وإنما أصبحوا يروجون لموقف الجناح الدعوي لأنه يتلاقى مع مصلحة السلطة التي لا تريد أن يتم التمديد لبنكيران، وعندما ستتحقق أو تنتفي هذه المصلحة سنرى نفس الإعلام الذي يروج اليوم لمواقف الحركة يتخذ من مواقفها الحالية الحجة والدليل على وجود هذا التداخل بين الدعوة والسياسية لدى الحزب والحركة على حد سواء.

مراقبة كيف ستنتهي الأزمة الحالية التي يمر بها
مراقبة كيف ستنتهي الأزمة الحالية التي يمر بها "العدالة والتنمية" المغربي، لم تعد مهمة مغربية فقط، وإنما تشغل بال الإسلاميين بصفة عامة في ظل انحسار الإسلام السياسي في المنطقة

لقد سبق أن كتبت مرارا أن ما فشل هو النموذج السياسي للحزب، القائم على نظرية "الإصلاح التدريجي من الداخل"، وعراب هذا المنهج هو بنكيران، ونجاح الحزب في الانتخابات لا يمكن أن يغطي عن فشله الذريع في الإصلاح، ومعالجة هذا الفشل لا يمكن أن تحل من خلال الاصطفاف الشكلي الموجود حاليا داخل الحزب والذي قد يضعفه إن لم يؤدي إلى شق صفوفه، وإنما بممارسة "النقد الذاتي" كثقافة غائبة في جميع الأحزاب السياسية المغربية، وأدى غيابها إلى القضاء على أكثر من تجربة سياسية في المغرب مرت بنفس الظروف التي يمر بها اليوم "العدالة والتنمية".

ممارسة "النقد الذاتي" لا تعني بالضرورة تخلي الحزب عن منهجه الإصلاحي، وإنما التفكير في البدائل والمواقع التي قد تساعد الحزب كي يكون قادرا على التأثير أكثر والمساهمة الفعلية في الإصلاح الحقيقي الذي أقنع ناخبيه بقدرته على إنجازه وبالطريقة التي يؤمن بها.

فقبل حزب "العدالة والتنمية"، كان حزب "الاتحاد الاشتراكي" اليساري يتبنى نفس المنهج عندما كان في المعارضة، وعندما وصل إلى السلطة لم يمارس الضغط الكافي من أجل تحقيق الإصلاح الذي كان يعد به، وبدلا من أن يمارس قادته نقدهم الذاتي، فضلوا الاستمرار في تقديم المزيد من التنازلات حتى تحول حزبهم اليوم إلى رقم هامشي داخل المعادلة السياسية المغربية.

الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية، وبات مطلوبا من الحزب الحسم فيه إذا أراد تجنب الوقوع مستقبلا في مثل هذه المطبات هو الفصل بوضوح وبشكل نهائي بين جناحيه الدعوي والسياسي، حتى لا يصبح كل جناح مرتهن للجناح الآخر وعبئ عليه.

مراقبة كيف ستنتهي الأزمة الحالية التي يمر بها "العدالة والتنمية" المغربي، لم تعد مهمة مغربية فقط، وإنما تشغل بال الإسلاميين بصفة عامة في ظل انحسار الإسلام السياسي في المنطقة، ونجاح الثورات المضادة التي شجعت على العودة إلى السلطوية في أكثر من بلد عربي. وكيفما كانت نهاية هذه الأزمة فإن "العدالة والتنمية" سيخرج منها ضعيفا بعد أن أنهكته خلافاته الداخلية وسكن الشيطان بين ضلوعه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان