شعار قسم مدونات

حيادية الرمادي..

blogs - woman girl alone sad home

إلى أين يمضي العمر بي؟ ما الذي تصنعه الأيام بنا؟ إنه يسقط يومًا تلو الأخرى ماضٍ بنا نحو عبثية لا نعلمها، يسقط يومًا تلو الأخر، تماماً كحبات رمل في ساعة رملية، تسقط بالتوالي لتعلن بسقوطها انتهاء فترة مجتزأة من لا نهائية الأبد. إننا نتآكل بمرور الزمن، فكل شيء يبهت بمرور مدة معينة منه، كنا نحاول عبثاً أن نحافظ على ألواننا بشيء من الأمل والسعادة والفرح، لكن لا مفر من سلطة اللون الرمادي، لا مفر من حياديته واحتمالاته الغير محصورة.

 

كلنا دون استثناء، كان لنا محاولات عديدة في خلق تجارب حياتية جديدة، لم تكن موجودة من قبل، تجارب تعود ملكيتها لنا وحدنا، بمشاعرها بأحداثها وبأدق تفاصيلها، لكن ما يلبث ويمر الزمن مخلفاً أثره حتى تصبح كل تلك المحاولات باهتة بلون رمادي، بفعل تكراراها وبفعل الزمن علينا فلا حيلة لنا لتجديدها بألوان أخرى تجعلها مختلفة عن سابق عهدها.

 

وكل الأشياء القديمة لها بريقها الخاص ولها ما يخصها من المشاعر تحت مسمى الحنين، نحنُ نَحنُّ بكامل صورتنا وألوانها لتلك الصورة الرمادية، غير مباليين بهيأتها المعتقة البعيدة عن الأشكال الحديثة الآسرة، بقدر اهتمامنا بأصالة تلك التفاصيل الحقيقة الكامنة في ثناياها بعيداً عن زيف الحداثة.. ففي قلوبنا مشاعر تكفي لهزيمة حيرة الرمادي، بل لتمنح الشيء المعتق الحياة وتكسبه ألواناً أزهى وأجمل من الأشياء الحديثة الباذخة في الاهتمام والتفاصيل.

 

لا أعلم.. لا أعلم حتى إن كنت أحتفظ بداخلي إلى الآن على اللون القرمزي الذي يميز الدم، أشعر وكأن قلبي قد شاخ فجأة وكثرت تجاعيده، ولا أعلم إن كان بإمكان شيء أن يهبط بشكل فجائي على الروح والقلب فيعيد بذلك لذاكرتي شعور الفراشات، ويكسي الأطراف باللون الوردي الحالم، أقول الأطراف فقط لأنه لا سبيل لهزيمة الرمادي الكامن بداخلي، لكن لا بأس بهذا، فمن المعروف تناسب الوردي مع الرمادي، ربما يعود سبب التناسق والانسجام إلى فكرة عدم إدراك الشيء إلا بوجود نقيضه، فالباهت فيه لا سبيل لوجوده أو لا سبيل لإدراكه ربما، إلا بوجود الأمل المضيء باللون الوردي والعكس صحيح.

  

أحدق وأحدق باستمرار بهذا الكون وبحركاته الجنونية المتزايدة بالسرعة دون توقف، لا شيء يشعرني بفعل الحياة سوى تلك الحركة، تلك الحركة المراقبة من بعيد دون حتى أن أكون أنا جزءاً منها
أحدق وأحدق باستمرار بهذا الكون وبحركاته الجنونية المتزايدة بالسرعة دون توقف، لا شيء يشعرني بفعل الحياة سوى تلك الحركة، تلك الحركة المراقبة من بعيد دون حتى أن أكون أنا جزءاً منها
  

أريد أن أتدارك الأشياء وتدهورها وأن أعيدها إلى سابق عهدها، أريد أن أخفف من حدة الرمادي وغموضه بألوان الحياة، أريد أن أعيد للأشياء عفويتها وحيوتها كما لو أنني اكتشفت العالم للتو، وأن تعود تلك الرغبة بالاقتراب من كل شيء وافتراسه بالفضول بدلا من تكوري على ذاتي القابعة بالرماد.. آهٍ يا نفسي القابعة تحت الرماد، أتُراك تنتظرين بعثاً لمصيرك بشكل آخر متجدد كما كنت تحلمين؟! أتُراك تشبهين العنقاء بخصائصها وتنتظرين انطلاقاً لوجودك من تحت الرماد أو من بعد العدم، هل سيتحقق هذا الوجود باقترابك المتزايد من الحقيقة؟!

 

أحدق وأحدق باستمرار بهذا الكون وبحركاته الجنونية المتزايدة بالسرعة دون توقف، لا شيء يشعرني بفعل الحياة سوى تلك الحركة، تلك الحركة المراقبة من بعيد دون حتى أن أكون أنا جزءاً منها، ربما ما زلت أبحث عن مكان يناسبني، فلن أتحرك حركة عبثية مصيرها العدم، ربما الأدوار العبثية تحتاج إلى من يمثلها لكنني لست الكومبارس المناسب لمثل هذا الدور. أريد أن أحلق في كون فسيح، لكن هذا الرمادي البائس يعيقني، متى ستهزم ليلكية الكون رماديتي؟ متى سأمضي أنا حامل أفكاري كلها نحو الحلم؟ وكأنني أشعر بوصف فينسنت فان جوخ يتمثل بصورتي، "أشعر بغربان سود تنقر برأسي، كل شيء حلم، كل شيء حلم، كل شيء هباء أحلام". وبهجة الأمل تخدعنا في كل حين.

 

الأشياء تبهت بمرور الزمن، والسعادة التي تمثلت يوماً بالبياض، والحزن الذي تمثل بالسواد، كل ذلك اجتمع معاً لأغرق بفعله بالرماد، كل ذلك جعلني أقف في اللازمان واللامكان وفي اللاأدري، فالاحتمالات لا تنتهي والوقت يمضي والعمر ينسرق.. وما زلت أنا، بذاتي الرمادية، أقف عند منتصف الأشياء، أنتظر ما يعيد للوحتي وعلى حين غرة ألوانها، ربما لتعود بذلك لسابق عهدها، أو لتخلق من جديد من التناسق بين الرمادي وغيره من الألوان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.