كانت القاعة فارغة إلا من بعض الأصدقاء والمعارف وقرابة عشرة أشخاص يجلسون في أماكن متفرقة على الكراسي الخلفية، والمحاضرة حول "أخلاق النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم" قد بدأت بالفعل منذ أكثر من نصف ساعة.. للأسف لم يكن الإعلان عن الندوة يتضمن "عشاءاً" في نهايتها. أليس ما حصل هذا يحصل غالباً؟ فلا حضور للدروس والمحاضرات الجادة سواء دينية أو غيرها إلا بوجود الطعام حتى لو كان مجرد بيتزا ومعجنات، وحتى في المساجد. طبعا باستثناء الحضور الكثير لدروس شخصيات معروفة ومحبوبة بعينها ومن أجلها وليس من أجل المعلومة التي يقولونها ربما.
لنعترف.. أننا أصبحنا نعيد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في العام في ذكرى مولده؛ ثم ما نلبث أن ننساه من حياتنا ونواصل روتيننا، يعني أصبحت هذه المناسبة كأي مناسبة أخرى تمر في يومها ثم تغيب للعام المقبل. فعلامَ نتمنى أن يكون الرسول الكريم بيننا؟ ولماذا نتخيل أنه قد يأتي مثلاً ومعه حلول لكل مشاكل دنيانا الحاضرة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، أو أن يُفشي السلام بيننا ونحن متناحرون متفرقون وشعوبنا تُباد بأشكال متعددة ويقتتل أخواننا معاً أمام أعيننا وما من يتحرك ولا من يُفكر في التحرك.
ليس خفياً أن أحوالنا الاجتماعية تسوء كل سنة أكثر من قبلها، وأننا تركنا الدول العظمى تتحكم بأحوالنا الاقتصادية من خلال الدمى المسماة بالحكومات العربية، وأن أحوالنا السياسية تبدو من بعيد نتاجاً حقيقياً لتركنا وترك أجدادنا وآبائنا ونحن من بعدهم الأمور تمشي على عواهنها مُهملين مبدأ "قوة الشعب" الحقيقية التي تستطيع صنع التغيير الحقيقي. ولذلك تجدنا في أوهن الحال نطلب التغيير من خلال الأحلام السعيدة والبرامج التلفزيونية وإعادة وتكرار مقطع فيديو "لو كان بيننا" ملايين المرات عاماً بعد عام.
دعونا نعترف بأن رغبتنا بوجود النبي في زماننا ما هي إلا أنانية مفرطة وتواكل على خيالاتنا الواسعة ليس إلا، فكل منا مشغول بيومياته وهمومه وقد لا يفكر ألا ما ندر بأن يطبق سننه وأخلاقياته |
في الماضي كنت أعتقد أن أمنية كهذه ربما تشفي غليلي، تريحني كالعادة من تأنيب الروح المستمرة، وقد تهدي بعض الناس وتقنعهم للاهتداء بهديه مثلاً أو التوقف عن بعض مما يفعلونه من أخلاق لا ترضي الله ورسوله الكريم، لكن الأمنيات أصبحت أحلام وصرت محبطة تماماً من أي تغيير على الأقل في الوقت الحاضر.. فلماذا أتمنى أن يعود بيننا.
لا أتمنى ولا أريد أن يكون الرسول بيننا، ولا أتخيل أن يعيش معنا زماننا المنافق ليقوم بإصلاح حالنا وحل مشاكلنا ونحن نقف متفرجين. لكن السؤال الذي قد يبدو منطقياً هل نحتاج حقاً لشخصية قوية قادرة على جمع شتاتنا وتغيير مجرى تاريخنا المنحدر، هل سيكون لوجود قائد معين ذو شأن وهيبة بيننا إلى أن نبدأ بتغيير أحوالنا الشخصية قبل أحوالنا العامة في بلداننا العربية؟ أتسائل حقاً إن كانت الشعوب العربية بحاجة ماسة إلى مثل هذا الإنسان الذي سيوحد القلوب حوله، قلوب الشعوب ليقلب الموازين ويغير مجرى التاريخ غير المشرف الذي نحياه.
إن كان ذلك ما نبتغيه وما نتخيل أنه سيحصل فقد يكون الأولى فعلاً أن نبدأ بأنفسنا وأبنائنا وطرق وأساليب تربيتنا حتى نتوقع أن يخرج من الجيل المقبل من سينقذ حال الأمة ويقودها إلى الأفضل.
دعونا نعترف بأن رغبتنا بوجود النبي في زماننا ما هي إلا أنانية مفرطة وتواكل على خيالاتنا الواسعة ليس إلا، فكل منا مشغول بيومياته وهمومه وقد لا يفكر ألا ما ندر بأن يطبق سننه وأخلاقياته بشكل حقيقي، وربما يكون من النفاق الكبير أن نظل نعيد ونعلن عن رغبتنا بأن "يكون بيننا" لعلمنا الحقيقي (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.