زحام الأقنعة في زمن الصورة

انقلبت الطقوس رأساً على عقب، وتجاوزت المجتمعات محل التصوير التقليدي، وأصبح الفرد هو المصور وهو موضوع الصورة في اللحظة ذاتها، دون أن يتردد في بثها من فوْره ضمن طوفان الصور التي تغمر الشبكات والتطبيقات، وقد تبلغ الآفاق في ذيوعها إن تحققت لها مواصفات مخصوصة.
قد تبدو صور الماضي أصدق من نظيرتها اليوم، فإن التزمت التقاطات الأبيض والأسود طقوساً متكلفة، فقد كان معروفاً ضمناً أنها قائمة على الافتعال إلى حد كبير، حتى قضت نزعتها الصنمية آنذاك بتحييد الانفعالات التي قد تتراءى على الوجه. أما التصوير بالهاتف فأعاد إنتاج تقاليد التصنع بذكاء أكبر لتبدو عفوية وتلقائية وقريبة من الواقع، لكن بصفة زائفة أو مضللة أحياناً. فالناس ظلوا يقومون بتعديل سلوكهم خلال لحظة التصوير كي يمنحوا الانطباعات التي يريدونها عن أنفسهم، وقد يختارون الظهور مع أجزاء محددة من المشهد دون غيرها، وهم في هذا أوفياء لمفهوم الاجتزاء من الواقع الذي يقوم عليه فعل الالتقاط. تتحيّز الصور ولا تملك إلا أن تكون كذلك، فهي ليست الواقع بل اجتزاء مخصوص يزعم الانتساب إليه.
ويبقى هذا الاجتزاء محفوفاً بتحيّزات ذاتية في زاوية الالتقاط ومواصفاته. ولا يخضع تمرير الصورة ونشرها لحياد موضوعي لأنّ المفاضلات تبقى قائمة عبر وسطاء التداول. وتجنح بإدراك الصورة وتأويلها مؤثرات شتى، منها ما ينعقد بتأثير القوالب الذهنية النمطية والأحكام المسبقة المتفرعة عنها، فتنقلب صورة "المناضل الملثم" في بيئته إلى "إرهابي عنيف" في غيرها، أو يغدو مشهد التكشّف الذميم هنا علامة انعتاق واستقلالية هنالك.

بوح الأقنعة
يحتفي الأفراد بالصور الذاتية وما ماثلها من مقاطع، وتتجلى في بعض الالتقاطات رؤاهم وتطلعاتهم وأنماط تفكيرهم، وقد تخالجها أمراض النفوس ومهالكها، وعوْرات القلوب ومساوئها. تشي صورة هذا بتعطشه إلى الزعامة، ويظهر آخر خلف مكتبه منتشياً بسلطته المفتعلة ورموزها، ويحلم ثالث بثراء يستدعي مظاهره ولا يملك مفاتحه، ونظير له تعلّق قلبه بكومة حديد تمضي على عجلات أربع، أو بمركب راسٍ في مرفأ لفاحشي الثراء، وآخرون أقعدتهم بطونهم فألْجأتهم إلى التقاط الصور الذاتية مع موائد شهية زُيِّنت للآكلين.
يتحرى التصوير تكليس اللحظات المخصوصة، بما أحال المزارات المقدسة عند الطوائف جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى فضاء مفتوح للالتقاط المصوّر، فيلجأ الحجيج والزائرون والطائفون، عبر تكثيف صورهم الذاتية، إلى مفارقة لحظة الواقع صوب أزمان افتراضية مديدة. ومع الهوس الجارف؛ بات قلب الناسك معلّقاً بهاتف ذكي، بينما يشرد عقله في تحيّن الصور التي سيبعث بها من المكان الذي تشرئبّ إليه الأعناق، فتقع التضحية بالموقف العزيز لأجل صورته، ويجري نحر اللحظة طمعاً في مخزونها الإعلامي.

نرجسية مصورة

وقد تخضع الصورة للتوظيف الذي يجنج بها عن سياقها، وهي عرضة لضروب التأويل بما يوافق قوالب نمطية محددة. وليس من عجب بالتالي أن تغذّت الصورة الحالمة والساذجة عن "الشرق" في أوروبا من أعمال رسامين اصطنعوا هذا "الشرق" في لوحاتهم التي أخذت بالألباب كل مأخذ، من دي لاكروا إلى كاندينسكي، قبل إخلاء الساحة لزمن الصورة الفوتوغرافية التي واصلت المسار واتسعت به. وتبقى روح الاستشراق كامنة في ثنايا ما تضخه وكالات الصور الحديثة، عبر التقاطات يتحراها مصوروها في الميدان إذ يدركون المواصفات "المثلى" لما يحظى باهتمام الإدارات الصحفية في المراكز الغربية. إنهم مصورون شرقيون في الغالب؛ لكنّ صورهم الملتقطة من بيشاور أو وادي النيل أو المغرب الأقصى تستبطن روحاً استشراقية كامنة.
وبما تفيض به الصور والمشاهد من إيحاءات تفعل فعلها في وعي الجمهور؛ فإنّ زمن الصورة والمشهد هو ذاته زمن العلموية الطاغية وما بعد الحقيقة، فالصور والمقاطع اقتحمت ميادين العلوم والمعارف ذاتها واجتاحت الوعي بمزاعم متنصلة من مقومات التحقق والتثبت. وبلغ الأمر حد انتظار مصلحي الأفكار ومجددي الدين من مقاطع وشاشات بمعزل عن تأليف الكتب والأسفار أو نشر الدراسات والبحوث، ولا بد لهؤلاء أن يستلبوا الجمهور بنضارة الوجه وحسن الهيئة ولحن القول والافتعال في الأداء المرئي.
ولم يتأخر السياسيون عن الركب، فأخذوا يلتقطون الصور الذاتية مع الجمهور دون أن يبخلوا بابتسامات سخية عريضة. يلجأ السياسي إلى السلاح الذي يحمله المواطن في جيبه: الهاتف الذكي، فيتماهى بهذا السلوك مع حالة الناس الوجدانية، وتكتشف براءة الجماهير أنّه "جدير بالثقة" لأنه "مثلنا تماماً"، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويلتقط الصور بابتسامات عريضة.
واكتشفت طقوس الرياء الانتخابي مفعول الصور الذاتية التي تستهدف الإيحاء بقرب المرشح من الناس وملامسته همومهم، استعداداً لحصد أصواتهم يوم الاقتراع. إنها مسايرة للسلوك الشائع محفوفة بالاستغفال أحياناً، لاستلاب الوعي الجمعي وكسب موثوقية قد لا يكون السياسي أهلاً لها في الأساس. ظهر هذا السلوك ابتداء في الديمقراطيات الغربية التي تتدهور جودتها رغم حمى التقاط الصور الذاتية، ثم مضى ساسة مستبدون في أرجاء العالم إلى محاكاته بالظهور مع أفراد من الشعب في صور ذاتية مشبعة بابتسامات مضللة تتحرى طمس الواقع والتعمية عليه.