يصعب تصور حزب "العدالة والتنمية" بدون زعيمه الشعبي والتاريخي والكاريزماتي عبد الإله بنكيران. لكن هذه هي الصورة التي يجب أن نتعود عليها بعد مؤتمر الحزب نهاية شهر ديسمبر / كانون الأول المقبل. بنكيران الذي أعفاه الملك محمد السادس من رئاسة الحكومة في شهر أكتوبر من العام الماضي، أقصاه إخوانه قبل أسبوع من الاستمرار على رئاسة الحزب لولاية ثالثة. فكيف سيكون حزب "العدالة والتنمية" بدون بنكيران؟
بنكيران ليس شخصا عاديا داخل حزبه فهو يجسد الحزب ويختزل تاريخه، وهو صاحب "المنهج" الذي جعل حزبه يعبر المراحل ويخترق الزمن ليرأس الحكومة لولايتين متتاليتين بعد تصدره لنتائج صناديق الانتخابات. وتاريخ الحزب القصير، نسبيا، هو نفسه تاريخ بنكيران الذي انتمى وهو شاب يافع إلى حركة "الشبيبة الإسلامية" في سبعينات القرن الماضي، دخل السجن وتعرض للتعذيب وراجع أفكاره ونبذ العنف مبكرا. وأسس جماعة صغيرة ظلت تكبر حتى أصبحت حركة جمعت حولها شتات حركات إسلامية صغيرة. تبنى منهج الإصلاح التدريجي من الداخل وسعى إلى تحقيقه فكان له الفضل في فتح باب المشاركة في العملية السياسية أمام الحركة الإسلامية في المغرب لأول مرة عام 1997.
آمن بالتوافق وعدم إقصاء أي طرف داخل المجتمع فمد يده إلى جميع الأحزاب السياسية، قدم التنازلات وقبل الجلوس في قاعة انتظار السلطة طويلا على الخروج إلى ساحة المعارضة المفتوحة على كل الاحتمالات. وفي عام 2011 أثناء الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب بتأثير من رياح "الربيع العربي" اختار بنكيران أن يقف ضد هذا الحراك ويصطف خلف السلطة وضد الشارع، وعندما جرت الانتخابات تبوأ حزبه صدارة الأحزاب السياسية المشاركة فيها فعينه الملك أول رئيس حكومة إسلامي في المغرب جاءت به صناديق الاقتراع.

وبالرغم من قراراته اللاشعبية طيلة فترة ولايته على رأس الحكومة خرج حزبه منتصرا من كل الاستحقاقات الانتخابية التي جرت عامي 2015 و2016. ومع ذلك لم تشفع له انتصاراته في استحقاقين انتخابيين متتالين للبقاء على رأس الحكومة. أعفي، بعد أن فشَل أو أُفشِل في تكوين أغلبية، من رئاسة الحكومة. خرج من الحكومة ذليلا مهانا وبدلا من أن يسنده الحزب الذي أفنى عمره في بنائه جاءته الضربة القاضية من أقرب إخوانه فظهر من بينهم من خانه ومن خذله ومن طعنه ولسان حالهم كلهم يقول: "وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا"!
لا أحد ينكر فضل بنكيران الكبير على حزبه وخاصة على إخوانه الذين انقلبوا عليه. حول الحزب في ظرف سنوات قلائل من جماعة عقائدية منغلقة على أعضائها إلى حزب جماهيري عبارة عن تيار مجتمعي كبير يجذب أصوات الطبقات الوسطى من المحافظين والليبراليين ويكسب تعاطف بعض المثقفين اليساريين والمستقلين. كان كل سلاح بنكيران في مسيرته الحزبية خطابه الذي حوله إلى "ظاهرة صوتية" عرف كيف يسحر الناس بشعبويته، ومنهجه الذي بناه على معادلة دقيقة تقوم على الإصلاح في ظل الاستقرار والإصلاح التدريجي ومن داخل المؤسسات وبتوافق مع جميع المكونات. هذه الوصفة التي قام عليها المشروع السياسي لبنكيران هي ما يمكن أن نسميه اليوم "البنكيرانية".
المفارقة هو أن "البنكيرانية" التي صنعت لبنكيران وحزبه انتصاراتهما هي نفسها التي هزمته اليوم وقد تأتي على مستقبل حزبه غدا. فقبل أن يعفيه القصر ويقصيه الحزب هزمت "البنكيرانية" صاحبها عندما فشل في تنزيل مشروعه السياسي المبني على الإصلاح التدريجي من الداخل. المشكل هو أن "البنكيرانية"، أي مشروع ومنهج بنكيران، ستبقى قائمة حتى بعد إعفاء وإقصاء صاحبها، وحتى بعد أن أثبتت فشلها على يد من صنعها، فكيف يمكن أن تنجح فكرة على يد من قتلوا صاحبها، حتى لو كان القتل هنا رمزيا؟
تراجع دور حزب "العدالة والتنمية" مستقبلا سيساعد في رفع حالة الالتباس التي كان يغذيها بشعاراته وخطاباته، فمشروعه استنفذ كل طاقاته ولننتظر المشروع الذي سيخلفه |
هذا السؤال يحيلنا على محاولة استشراف مستقبل حزب بنكيران من بعده. فبإزاحة بنكيران من على رأسه خسر الحزب "طاهرة صوتية" مؤثرة، وشخصية "كاريزمية" قوية، وآلة انتخابية كبيرة، وقدرة كبيرة على المراوغة، وعقلا براغماتيا بارعا، ومنطقا تبريريا جاهزا.. "العدالة والتنمية" بدون زعيمه بنكيران سيتحول مع مرور الأيام إلى رقم عادي داخل المعادلة السياسية المغربية، والخاسر هنا ليس هو بنكيران وحده وإنما هناك أكثر من جهة ستشعر بالخسارة كلما اضمحل حضور الحزب وتراجع.
أول الخاسرين هي التجربة الحزبية المغربية التي ستخسر حزبا حقيقيا خرج من صلب الواقع وحمل هموم شريحة واسعة من المجتمع، وتحدث بلسان الكثير من الناس الذين فوضوه أمرهم في عدة استحقاقات انتخابية متتالية. والخاسر الثاني هو القصر الملكي في المغرب، أو ما يرمز إليه، أي السلطة المركزية، التي ستفقد "صمام أمان" قوي كانت تستعين به كوسيط بينها وبين المجتمع، وتستعمله لتمرير قراراتها اللاشعبية وتحمله مسؤولية أخطائها وتبرر به فشلها.
والخاسر الآخر الكبير هو الحركة الإسلامية داخل وخارج المغرب التي انهار "النموذج" الذي كانت تضرب به المثل في القدرة على تجاوز مطبات السلطة وحفرها والتصدي لمقاوماتها وتجنب انقلاباتها وإبطال مفعول ثوراتها المضادة. الأكيد أن تراجع دور حزب "العدالة والتنمية" مستقبلا سيساعد في رفع حالة الالتباس التي كان يغذيها بشعاراته وخطاباته، فمشروعه استنفذ كل طاقاته ولننتظر المشروع الذي سيخلفه، فالطبيعة كما يقال لا تحب الفراغ.
بعد تصويت أغلبية أعضاء برلمان حزب "العدالة والتنمية" على عدم التمديد لنكيران، والكل يعرف أن التصويت كان سياسيا أملاه الخوف من رد فعل السلطة ودولتها العميقة في حال تم التشبث برجل أصبح في مرمى نبالها، كتب أستاذ علم الاجتماع المغربي محمد الناجي معلقا على ما حصل: "لم يعد يوجد هناك سوى حزب واحد شرعي (في المغرب): إنه الشارع". نهاية "العدالة والتنمية" يعني عودة الكلمة مجددا إلى الشارع، وهذا أسوا وأحسن، ما في قرار إبعاد بنكيران عن رئاسة حزبه، لأن المستقبل يبقى مفتوحا على كل الاحتمالات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.