كانت أياما مشهودة وسنوات ميلاد أمل جديد يبدد ركام التخلف وويلات الجوع والعطش والعيش خارج الزمن الذي يعيش فيه العالم من حولنا، عالم يظله الإسمنت ويشرب من الحنفية ويستخدم مختلف وسائل الطاقة إضاءة وطبخا وتدفئة وتنقلا عبر القطارات والمراكب السيارة الحديثة. في خطوة تجلب الرفاهية والعيش الرغيد. لقد بقيت بلادنا جزيرة وسط العالم الحديث تحتفظ بكل مظاهر التخلف بعيدا عن الاستمتاع بما ميز حياة الأمم والشعوب في عالمنا المعاصر إذ ليس بينها وبين قطار الرقي والتنمية والتحديث صلة، بل يمكن القول إن بينهما قطيعة فشل القائمون على الشأن العام في بلادناـ حتى الآن ـ في ربط أواصرها.
لقد حرمت بلادنا من التعليم الحديث الذي ينتج خريجوه مفردات التنمية المطلوبة ولا شك أن وزر ذلك يقع على كاهل المحتل لعدم التأسيس لقاعدة انطلاق لبنى تحتية وتعليمية تنقل محاسن حضارته إلى مجتمعنا كما فعل في غالبية البلاد التي احتل وترك فيها آثارا خدمية أفادت تلك الشعوب بعد الخروج الشكلي له. كما أن العقلية (التدينية) نظرا لمحدودية استيعابها لمتغيرات الحياة لم تفرق بين التعليم الدنيوي الحديث وبين كراسي الكنيسة ومُكاءِ القساوسة فيها وتصْدِية الرهبان إذ هو قياس مع الفارق، قد يجد مبرراته في البعد من مراكز الإشعاع الثقافي في تلك الحقبة مما جعل التدين المنغلق وغير المستوعب للحداثة يقف سدا مانعا أمام التعليم الذي هو شرط التقدم والرقي.
ضيع الضباط المنقلبون على إرادتناـ ولو بتفاوت ـ الدولةَ وما تحوي وحولوها إلى مزرعة لممارسة تسلطهم وإشباع عقدهم النفسية دون مراعاة للمصلحة الكلية للأمة |
ولم يكن جوهر الدين الحقيقي ولا تعاليمه الموجبة لحاجة الناس من الصنائع والطبابة مانعا لذلك كما ينص عليه أبو حامد الغزالي في إحيائه. لقد تأسست الدولة الموريتانية تحت خيمة بواد غير ذي زرع على شاطئ الأطلسي، تحيط بإداراتها الجديدة قطعان المواشي ويسمع فيها عويل الذئاب، ويغيب عنها أي مظهر من مظاهر التحضر. لذلك لابد من تقدير الجميع لما نجح فيه جيل التأسيس من بناء معنوي ومادي لمؤسسات الدولة ومفاهيمها مع وجود المسوغات لذلك الجيل فيما عجز عنه من إكمال البنيان وترسيخ القيم وبناء المؤسسات، خصوصا أنه جيل يتمتع بصفتين نقصتا إن لم تكونا منعدمتين في الذين تبعوهم في الحكم من غير إحسان.
– الإيمان بالدولة القوية العادلة.
– العفاف تجاه المال العام.
وللمتتبع اليوم أن يطرح السؤال الكبير على النخبة الممسكة بمقاليد الحكم منذ عهد الانقلابات، ما السر وراء الفشل الذريع في ملفاتنا الكبرى التي بها قوام التقدم والرقي والازدهار؟ ولماذا بدل أن نضيف فيما ترك السلف، أو أن نحافظ على موروثه، ظلت الطغم تقضم من البنيان الذي شيدوا؟ لكن الإجابة تقول إن سر الفشل ليس في عدم وطنية الحاكم ولا في البطانة التي تحيط به، بل الأمر كامن في تحييد إرادة الأمة والحكم خارج رقابتها، وفي ظل غياب تام للمؤسسة التي بها قوام التخطيط والتطوير والرقابة والتنفيذ.
لقد تكرر انتظار البيان رقم واحد الذي يحسبه المتلهفون للإصلاح والطامحون لدولة عصرية يشعر فيها الفرد بالانتماء للوطن بما تحمله الكلمة من معنى، فإذا بصاحبه يعتمد بديماغوجية دعاية مسفة تحيط به جوقة لا تحسن صنعة الرقي ولا تهتدي لصواب الرأي. لقد ضيع الضباط المنقلبون على إرادتناـ ولو بتفاوت ـ الدولةَ وما تحوي وحولوها إلى مزرعة لممارسة تسلطهم وإشباع عقدهم النفسية دون مراعاة للمصلحة الكلية للأمة، فنجم عن ذلك الحرمان من أهم منجزات العالم المتمدن المتحضر.
إن للبشرية صراعا مريرا مع حكم الفرد ممثلا بفرعون، وتجبر الحاشية واستغلالها الكامن في سلوك هامان وقارون وسحرة الإعلام المنحرف المطبل الأفاك. ورغم ما دونه التاريخ من حالات نادرة أقيمت فيها صنوف من العدل وصور من التواضع إلا أن الفرق الحقيقي عبر الزمن جسدته القفزة الكبرى التي حملتها رسالة الإسلام العظيم معلنة رفع الآصار عن الخلق وتفكيك الأغلال ليقوم الناس بالقسط متساوين أمام ربهم في الصف وقت الصلاة وفي حقوقهم أمام الحاكم فأقام محمد صلى الله عليه وسلم صورا من التواضع في سلوك الحاكم وعدل القاضي ما سُبق لها – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – فقد أعلنها صادحة في مسامع التاريخ "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وأقام الحد على المخزومية رافضا سَنَن من إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وكشف عن لؤلؤ الحسن وهيبة الجلال ببطنه الشريف لحظة النزال يوم بدر كي يعطي لسواد بن غزية القَودَ. وعلى أثره سار الركب الميمون من الصحب الكرام فأعلنها أبوبكر "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". ويتواضع عمر بين يدي فرد من الأمة رفعت القيم الجديدة هامته إلى الأعلى أمام قائد الدولة المحمدية فيعلن أخطأ عمر وأصابت امرأة، فرغم أن المرأة كانت محتقرة قبل الإسلام إلا أنها اليوم تعترض على الخليفة عمر وتجادله في تنظيم الأحوال الشخصية في أمر الدين وحقوق الصّداق دفاعا عن صويحباتها.
وإن تعجب فعجب فهم الرباني الوقور لمكانة السلطة وما أناط الله بها من دور عملي في تنفيذ العدل وإسعاد البشرية فيعلن عثمان رضي الله عنه من على المنبر "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"
كما يخلد التاريخ مكانة القضاء وما نال من استقلال في تلك الفترة المتحررة من قيود الجاهلية النيرة بنور الإسلام العظيم فقد جلس الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع خصم من اليهود أمام القاضي شريح، وحين لم يجد علي من الشهود غير سيدي شباب أهل الجنة رد شريح شهادتهما فذلك ما يقول به قانون التقاضي المستقل حقيقة لا شكلا.
ورغم المحاولات المستميتة من المصلحين عبر العصور التي تلت العهد الراشدي فان تلك السنن في الحكم والقواعد في الشرع لم تجد تجسيدا مؤسسيا قانونيا ينزع من حشاشة النفس البشرية الصراع على الحكم ويعطى الناس دربة في التداول على السلطة فيبعد عن البشرية شرور الصراع على الحكم. السلطة قيمة عظيمة فهي لباب ما تمتلك الأمة من الطاقة المعنوية والمادية والبشرية من ثم فالناس بها متعلقة ولكلٍ فيها حقوق.
المتأمل لواقع الدول الغربية اليوم يدرك أنها قضت على المفهوم التقليدي للسلطة المخوفة المحتكرة للمنافع ولم يكن ذلك النجاح ليتحقق لولا ما قاموا به من تفكيك لمرجعيات الاستبداد الدينية والفكرية للسلطة المطلقة |
ثم إن أعظم ما أضافت الحضارة الغربية في العصور المتأخرة هو أنها بعد حروب طاحنة أهلية وقارية اهتدت إلى حل لتلك المشكلة المستعصية منذ النشأة الأولى للبشرية فأقامت النظم الديمقراطية التي تحكم بالدساتير المصادق عليها شعبيا المنظمة لحق الأمة في الحكم وحيازة الإدارة المبعدة لغوائل الاستبداد والتفرد بالشأن عن من يعنيهم لذلك أجزم بأن ما توصل إليه العقل الغربي الحديث هو المراد إسلاميا من العدل والقسط فالنظام السياسي والقضائي الموجود اليوم بالغرب جسد عمليا سيرة عمر في تواضع الحاكم وورع بن عبد العزيز في المال وقوة الأمة أمام أبي بكر لذلك لا بد من أن يختصر المصلحون في الأمة والحادبون على طاقاتها المعطلة الطريق على أنفسهم ويبذلوا الوسع في تنزيل تلك التجارب الإدارية والمالية والانتخابية في ديارنا.
إن المتأمل لواقع الدول الغربية اليوم يدرك أنها قضت على المفهوم التقليدي للسلطة المخوفة المحتكرة للمنافع ولم يكن ذلك النجاح ليتحقق لولا ما قاموا به من تفكيك لمرجعيات الاستبداد الدينية والفكرية للسلطة المطلقة، من ثم جاءت الدساتير لتعلن انتزاع (الحكم) (الإداري) من الحاكم الفرد وترده للأمة فهي مصدره، كما انه حق لها، ومن ثم فهي تمنحه بأجل على عقد هو البرنامج المنشور لمرشح يدير أمرها حسب الصلاحية الممنوحة له كمدير لا كملك، وقد انتزعت منه الجانب القضائي ليفصل غيره لحظة التنازع كما أعطت التقنين (الذي هو التنظيم للحياة اليومية للناس) و الرقابة لغيره، (ونتيجة كره مونتسكيو للحكم المطلق، جعله يأتي بأشهر وأعظم نظرياته، نظرية الفصل بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية).
وهكذا سنجد بعد التأمل في الأمر أن الذي بين أيدينا هو جزر من المؤسسات والصلاحيات هدمت أصل الفرعنة من أساسه، يقوم منطق المؤسسية على اعتبار المؤسسات مسؤولة أمام الشعب من خلال الصلاحية الممنوحة لها حسب الدستور والمنظمة بالقوانين وذلك ما يبعدها تماما عن يد إدارة الرئيس المنتخب فهي تقسم اليمين وتحصن بآجال موقوتة لا يمكن عزلها في تلك الأثناء وتفرض لها من الميزانية العامة للأمة ما يضمن قوام حالها بعيدا عن التحكم السلطوي.
في بلادنا أخذت نظم الحكم بمبدأ الدساتير والتقنين والانتخاب والمؤسسية وقامت بالقص واللصق أحيانا من دساتير أنظمة غربية متقدمة لكنها صادرت التطبيق وقتلت كنه الهدف الذي صوتت عليه الأمة عندما استشيرت. فعند ما ترقب الواقع في بلادي المنكوبة ستلاحظ أن لدينا من القوانين والمؤسسات نظريا ما يدير أعظم الدول وينمي أكثر البلدانٍ ساكنة.
لدينا برلمان أعطته النصوص أغلب مميزات المؤسسات المماثلة في الغرب، إلا أن تلك الصلاحيات ظلت حبرا على ورق الحاكم الفرد الذي يهدد بالحل إذا أضاف النواب في الميزانية رقما أو غيروا بندا فظلت المؤسسات الدستورية مدغمة في سلطة الفرد التي بطبعها منافية للتطور طاردة لبركة الشورى ومنافع جهد الجماعة الوطنية.
ولكي لا نظل بعيدا عن الواقع هاكم البرهان فما يجري من تحقيق مع أعضاء الغرفة الأعلى في البرلمان الموريتاني حول دوافعهم عند ما صوتوا بلا في غرفتهم فأفسدوا على حكم الفرد مشروع العبث بالدستور، وهو الأمر الذي أناط بهم الدستور صلاحيته تماما، كما فعل القاضي الفدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية عندما اسقط قرار ترمب، لكن (الحواجز القانونية أمام ترمب ودربة الإدارة الأمريكية على الاختلاف والتسليم لمنطق الصلاحيات كل ذلك جعله يستسلم).
ثم إن انعدام تلك المميزات السالفة الذكر في رئيس النظام الموريتاني دفعه للفتك بالدستور وإلغاء مجلس الشيوخ دون أن يكون الدستور عائقا لهيجانه السلطوي غير المتعقل وذلك خلافا لما تواضع عليه فلاسفة الشأن (يشير مونتسكيو إلى ضرورة أن تتمتع كل سلطة بالقدرة على البت في الأمور التي تدخل في اختصاصها. فالبرلمان يسن القوانين وهكذا بالنسبة لبقية السلطات، كما أنه يجب أن تتمتع كل سلطة بقدرة المنع، أي أن لكل سلطة الحق في منع السلطات الأخرى من أن تتدخل باختصاصاتها).
كما أن لدينا قضاء (شامخا) تم عزل رئيس محكمته العليا وتحويله سفيرا في جنوب الكرة الأرضية لأنه أعطى حرية مؤقتة لسياسي مظلوم على غير مقاس المنقلب على إرادة الأمة يومها، وعندما سولت لسلفه نفسه أن يقاوم تصرف الحاكم الفرد مستندا لقواعد استقلال السلطة القضائية ومنطق احترام رمزية القضاء تم عزله بنفس الطريقة، فنهض نحو مكتبه صبيحة يوم مشهود يظن أنه في دولة وأنه رئيس إحدى سلطاتها الثلاث فإذا بعريف مأمور يرده عن حماه ويصرفه عن عرينه فصلى ركعتين مدفوعا بالباب كعمل إعلاني يلفت الانتباه لجريمة التحكم تلك والاعتداء على الدستور والمؤسسية والصلاحيات.
إن الدرس المستخلص من تتبع واقعنا منذ الاستقلال يؤكد أن لا أمل في إصلاح الحال أو النهوض من الكبوة الأخلاقية والصعود إلى ركب الأمم المتقدمة دون مؤسسية دستورية |
وعندنا مجلس للدستور محصن بقوانين وتسع سنين عن العزل ومحلف بإيمان غلاظ وبعد سنة ونصف من أشهاده الأمة ومناديب العالم على تسمية رئيس جديد هو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله نثر عليه من أحاديث النبوة في المسؤولية ما لم يكن في الأعراف تلاوته في ذلك الوقت، وجدنا ذات المجلس بنفس الأعضاء يستقبل إعلانا دستوريا من عسكري منقلب هو أقرب ما يكون لحديث الغرانيق فحكموا به وأضافوه إلى الدستور الذي أقسموا على صيانته والالتزام به، ثم وضعوا الحاكم الجديد بدلا ممن نصبوه وشهدوا له بانتخاب الأمة وحلف بين أيديهم ذات يوم ولم يختلف الخلف عن سلفه فها هو المجلس الدستوري اليوم يزكي استفتاء مخالفا للدستور في باب التعديل ويقر التزوير الذي روي (بالتواتر والتواتر عند أهل الحديث لا يحتاج سندا).
وفي ذات السياق أقسم أعضاء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات أمام ربهم وشعبهم بحراسة القانون والدستور والحياد والشفافية وإذا بها تعلن نتائج من زور رغم يمين منعقد حلف عليه طاعنون في السن ظن هم مظنة للخير، فلم يفوا بنضال أمة كانت تتوق لرؤية لجنة مستقلة اتُّفق عليها أوان كل الحوارات وقرر لها من الصلاحية وحدد لها من الوسائل ما يجعلها مستقلة حقا لو وجدت من يبر بالقسم ويملك قوة الرفض. يأتي الاستقلال اليوم وقد عمق نظام الفرد الانشقاق وزاد من بؤر الصراع فقد قضم من عافيتنا ورموز توحدنا ما لم يكن في الحسبان. على الأقل ما بعد الاستقلال كان لنا علم نجمع على رفعه ونشيد نصمد أوان عزفه سيرفع بالنظام علم لا يحترمه الجميع ونشيد لا يطرب لسماعه الشعب فإلى أين هاوية المسير؟
إن الدرس المستخلص من تتبع واقعنا منذ الاستقلال يؤكد أن لا أمل في إصلاح الحال أو النهوض من الكبوة الأخلاقية والصعود إلى ركب الأمم المتقدمة دون مؤسسية دستورية وأن تلك المؤسسية لا معنى لها في غياب رأس يؤمن بها ويبر بقسمه في حمايتها فكل عمل لا يَصب في ذلك المطلب خواء وعمل معاد على المجموعة الوطنية التي تنشد التغيير واللحاق بركب الأمم، ولزاما عليها أن تستغفر منه وأن تتداعى إلى مشروع وطني لا غالب فيه ولا مغلوب هدفه الأول هو تحرير السلطة المطلقة من يد الفرد، وردها لإرادة الأمة في جو من الضمانات المحصنة لقيم الحرية الديمقراطية والمساواة بين أفراد الشعب، ثم تنطلق خُطط النهوض والتنمية وقد ولت أزمات الانتقال إلى غير رجعة معجلة بميلاد إدارة تخدمنا بعدل وتسوسنا برشد مسترشدة بتجارب البشر النافعة وقيم الأمة العلوية المحصنة لجملة أخلاقنا مستعينة بتجربة الغرب النافعة إداريا وماليا ورقابيًا وتنمويا منقاة من شوائبها الأخلاقية وهشاشتها الاجتماعية.. فهل إلى ذلك من سبيل؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.