إن أعلى قيمة قدمها الرجلان؛ الاستعلاء على ذل الواقع، والتحرر من العبودية، فإن كنت تملك أن تكون حرًا قويًا، فوق السلطان، فلماذا تختار الانصياع؟ (إن السوط الذي يلهب الجسد لا يُلهب الروح، إن ما يلهب الروح سوط الذل الذي رضيته)*، ولا يوجد قوة على وجه البسيطة ترغمك لأن تكون تابعًا إلا إن كنت تريد ذلك ولو بمقدار واحد بالألف، إنها رغبة مغلفة تكشف عن نفسها مع الوقت فقط.
كلاهما امتلك قوة أخرجها في شكل جديد توالدت عنها قوى وآثار متعددة، فأما سيد فقد امتلك "قوة الكلمة" التي تحدث عنها في حياته، عن مفعولها، عن الفتح السماوي الذي يُلهب الحرف ويكتب له الصدق والبلوغ، فكان سيدًا لحرفه وقائدًا، حتى اقتاتت كلماته فعلًا على دمه.
أما ناجي فقد امتلك قوة الريشة، الصورة البديعة التي تحكي القصة في خطوط بالأبيض والأسود، في كلمات قلائل، توجز الحدث، وتوصل الرسالة، غير مكترث بالتصفيق، أو التهديد، كان مدركًا مصير مَن يختار هذه الطريق، طريق الأحرار، الذين يرفضون التطويع والتدجين، ولا يخشون من معاكسة التيار ومشاكسته ومعاداته أيضًا، حتى كان دمه الثمن المنتظر.
رأى سيد في الإسلام نهج حياة يعم البشرية، ورأى ناجي في البندقية الطريق إلى فلسطين، إنه التحرير، تحرير الإنسان من الطغيان والعبودية، وتحريره من الاحتلال والاستعمار، وضحت الرؤية أمامهما، حتى ما عاد أي تشويش حولهما يؤثر فيهما، الخط واضح، والغاية واضحة فلمَ الاضطراب أو الخوف؟ هكذا طلّقاه وتحررا منه، فأي قوة تملك أن تقف في وجه ثائر هذا حاله؛ يعرف طريقه، وما يريد؟
لم يكونا مهمشين، ولم يكونا منكمشين على ذاتهما، كل منهما في واقعه الذي برز فيه، كان لهما دور طليعي متقدم، استطاعا أن يحركا الراكد حولهما، وأن يتحولا منذ اللحظة الأولى لخلودهما إلى أيقونات، ليست ملكًا لأحد، لكن قد ينتمي إلى أي منهما أي أحد، يميني أو يساري، مصري أو فلسطيني، هذه الأقسام غير مهمة، فالفكرة فوق الجغرافيا، وفوق التفريعات والتصنيفات، وكل فكرة تمس جوهر الإنسان؛ فكرة تصلح لتعمم خيريتها وتتعدى وطن المنشأ.
إننا نحرم أنفسنا جمال القلم؛ حرفًا أو صورة إن قبلنا ممارسة الاستثناءات في اختياراتنا لمن نقرأ ونطلع على أعمالهم وفقًا لأحكام مسبقة، تصنف ذا يميني، وذا يساري، إننا ونحن ننادي بالحرية والتحرر، بحاجة لأن نقرأ الرجلين فيما قدماه، ونبحث مرة تلو المرة عن المشترك الذي يأسرنا إلى مداراتهم، وإني لأزعم أن من ملك التأثير العام يملك أن يُحدثه فينا فرادى أيضًا، فتلك الروح المنبعثة بين أصابع الكاتب والرسام يمكن أن تحل فينا، فتدفعنا لنتخلص من شوائبنا، من عبوديتنا، من مخاوفنا، ثم نستقيم من جديد كخلق بُعث تارة أخرى، يعرف طريقه جيدًا، ولا توهمه كل الشعارات على جانبي الطريق ليحيد.
إنها طريق سيد وناجي؛ الحاكمية والبندقية.
* بتصرف عن سيد قطب، دراسات إسلامية، تحت عنوان: العبيد (أنصح بالقراءة).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.