شعار قسم مدونات

كشمير.. مدينة تهفو إليها الأفئدة والبنادق

Blogs- Kashmir

كشمير كانت لها تاريخ تليد من العزم والصمود، ومزيج من الأحلام المفقودة، حليتها من التلاع الآسرة والطبيعة المزهرة الباسقة، ظلال وارفة وجنات تجري من تحتها الأنهار، عاشت حقبة من الأزمان في زهرة حياتها وريعان شبابها، ولكن حينما تطاولت عليها الأيادي وفتكت بها عيون الحقد والحسد بدأت حياتها من جديد، حياة مع الأنقاض والركام، وأيام مع القصف والقنابل، معاناة لا تعرف الحدود.

            

فمن وهادها تتصاعد أنات الثكالى وزفرات اليتامى والأيامى، فمن تلعتها نزح حمائم الحب والسكون، تهزها نيران البنادق وبارودها، وتخرق أرضها خنادق وأخدودها، وكأن الجثث البالية تمتلك الشوارع والجماجم تعكس المظالم، هذه هي الجنة العدنية الخالدة التي أروقتها الحدائق المغولية والآثار المعمارية الأنيقة، ذات الجبال الشيقة والمآثر النابضة التي قامت بها جمهورية الهند منصوبة القامة ومرفوعة الهامة في خشبة المنصات العالمية، فالآن ترثي لحالتها السيئة، لأنها مدينة تتسكع فيها أطياف الإرهابية.

            

وما زالت دعسات الاحتلال مؤثرة في كل ذراتها، وغصة الأغلال تتضايق في كل ربوعها ومروجها، تسمع من سجونها همسات الاعتقال وجلجلات الاغتيال، لربما كانت كشمير أكثر مدينة في الأرض تتصارع فيها الجيوش لتدميرها وتتوجه إليها الدعايات طامحة في أن تكون المدينة المشتركة، لأنها ضحية العنف والبغض، فمن عيونها تتهطل شآبيب الدماء الملطخة بعزة البنات والأمهات، ومن مقلاتها تسكب الدموع جرافة، ومن جداولها الصافية تنهمر عويلات الفتيات المشردة، والبنات الطريدة، وتوجعها أسى وشجىً حوادث جرت بين الدولتين من التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، وتقارير صحفية ثائرة من قالب الانتقام، بل تصب في مرجلها وقود النار المشتعلة عبارات تنبث من فوهات الحكومة المركزية الهندية التي تهدد باكستان بالهجوم واختراق الثغور، وكراتشي لا تزال تشير سبابتها على أنف الهند.

   
وهنا تعرض مسلسلات لا تخلو من حلقات الأوجاع والمصائب، أبطالها مدافع تتوجه نحو شرايين الفقراء، ودبابات تنفخ في المنارات والأودية، إلا أن الأطفال هم دائما ضحايا الحروب والصراعات الخرساء، وقد أدت ممارسات وسياسات جوفاء إلى إحداث شرخ بين القوميتين، فقد اتسع الخرق على الراقع، وهذا الخلاف الدامي يطول ذيله إلى تاريخ الانشقاق بين الدولتين في الخمسينات، منذ أن شهد العالم نزوحا ضخما في الحدود الهندية.

  

هذه الترويجات الزائفة والدبلوماسية الفرصية لم تورث إلا وبالاً مثقلاً على الشعب الكشميري الصامد، لأن الهند أيضا تشعل هذه القضية وتأججها كصفعة على دعاية باكستان
هذه الترويجات الزائفة والدبلوماسية الفرصية لم تورث إلا وبالاً مثقلاً على الشعب الكشميري الصامد، لأن الهند أيضا تشعل هذه القضية وتأججها كصفعة على دعاية باكستان
 

هنا ترسم حياة تنبعث من بين الأنقاض المتكدسة، ومجد يلم شتاته من أرجاء التاريخ، يستنشق منها الحرية الخالصة، وتعشق حياة خالية من الصخبات المائجة، هذه هي كشمير جنة الأرض وعدنها، وحورها وغادتها، قطوفها دانية ولمستها حانية، ومن أجلها حارت لها بريطانية، ولكن حالتها الآن تبهر الجميع وتقرع القلوب، آمال منخورة وطموحات مكسورة، مغتصبة العرض، حليبة الأرض.

 

انتصار أم انتحار
حقاً.. تغفلت كشمير عن ماضيها المبتسم وتشبثت بيومها الظالم وغدها المظلم، وقد ارتقى العد التنازلي في التفكك العائلي.. بل ارتفع عدد المعطلين ودرجة البطالة، فوضى في كل مكان، شبان يتهيمون في الأسواق، وشيوخ متسولون، وأطفال يصارعون لقمة العيش. فمن الذي يدير وراء هذه المسرحية، وينسج لها المكر والحيل؟ ثكالى يتامى أيامى.. ثلاثة رموز تمثل مسيرها وواقعها، وتخبر انتهاكات ومعاناة تجري تحت سمع العالم وصمته الرهيب، حتى تطاير حريقها في مقاعد الأمم المتحدة، وتحلب ريقه في فم القضايا المعقدة الدولية، لكن الحل الكافي فقط لم يتطلع، والحقيقة لم تصل إلى المنظر العام حتى الآن، وهي ملتوية بين الضفتين، ومكتوية في كلا المرجلين، حيث إن تعداد المسلمين يبلغ ما يقارب ثماني ملايين مسلم مما جعلت باكستان تربح تجارتها فيها حتى أصدرت عدة قرارات مفعمة بسم الإرهابية، في كل حركتها تلوح خفقة تطرفية التي تجعل جمهورية الهند تحت الضغطة، ومترصدة في الكمائن.

    
وفي المستوى الدولي تستمر الاستراتيجية لتصنيف كشمير وثورتها كانتفاضة فلسطين وغيرها من الدفاعات الإسلامية الساذجة، فمن هذه النقطة تتحرك باكستان بسمها القاتل، وتنطلق نحو الهند فاغرة أفواهها، وهذه الترويجات الزائفة والدبلوماسية الفرصية لم تورث إلا وبالاً مثقلاً على الشعب الكشميري الصامد، لأن الهند أيضا تشعل هذه القضية وتأججها كصفعة على دعاية باكستان، كأن الشعب الكشميري أجبر للصمت وطاعة الطاغوت، ولكن السر الكامن وراء هذه الاعتداءات والاحتجاجات لا يبدو إلا إذا تحررت كشمير من قبضة القمعية والتطلعات الغامضة، ومن سطوة الفاشية الشرسة التي تهتف دائما إلى إشعال غضبها وإنارة جمرتها كقضية هندوكية، هذه قضية شعب التقمت أرضها ملايين الشهداء وامتصت سجال الدماء المقدسة، فإنها قضية لا تنحل عقدتها في حفلات الشاي ولا في مهرجانات الرياضيات ولا بالتقارير المثقوبة المصطنعة، بل بنقل الدار إلى ديّارها والمفتاح إلى أربابها.

      

الشباب الذي يتحمس ويتوقد، الهائج في أوضاع كشمير الحرجة، يلوح ضغثا على إبالة، حتى يطيش الأمن والسلام ويتفحش السكون والأمان فينطوي ذلك البساط إلى أبد الآبدين
الشباب الذي يتحمس ويتوقد، الهائج في أوضاع كشمير الحرجة، يلوح ضغثا على إبالة، حتى يطيش الأمن والسلام ويتفحش السكون والأمان فينطوي ذلك البساط إلى أبد الآبدين
 

كشمير جنة مبتورة من أصلها

ستون عاماً من المعاناة الدائمة والمآسي والأزمات.. وهل في زوايا العالم نقطة كهكذا أو شعب ينام في أرصن سجن مفتوح في الدنيا، واسعة في عرضها وضيقة في عمقها، وتعلو في متن سمائها زفرات الطائرات المقاتلة، ونبرات الرصاصات الحديثة التي تقضي على الحياة، وتجعلها لازمة السرير والمستشفيات، ولكن الإباء البادي في ملامح كل كشميري يخترق حكومة الهند القاسية في ملكيتها ويمضي خارقا أسوار باكستان الطاغية في حقيقتها، ويوجه أسئلة إلى دلهي وكراتشي، أسئلة من الأطفال الرضع والشيوخ الركع.

        
لم لا تتخذ الدولتان قراراً أصيلا ولا تتقدمان للعثور على هذا السحاب القاتم؟ مع أن كشمير أصبحت لهم لعقة ولقمة، وعنوانا ونيشانا، وينقلبون في مواقفهم ويتنازلون تارة ويشعلون أخرى؟ وهل هذه لعبة أم أن الشعب الكشميري أمسى إمعة؟ أما الشباب الذي يتحمس ويتوقد، الهائج في أوضاع كشمير الحرجة، يلوح ضغثا على إبالة، حتى يطيش الأمن والسلام ويتفحش السكون والأمان فينطوي ذلك البساط إلى أبد الآبدين، دائما يبقى الأمل وحيدا وينأى بعيدا، لأن القوات المتسلحة ترتصد على حين غفلة من أهلها وتفتك بالفريسة، فالأزمة الحقيقية هي المتسلحون الذين يخرجون على العدالة والمحكمة، وينفذون ما سولت لهم نفوسهم، فلا صلاح إلا بنزع السلاح.

  

الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها
إن الظروف النازفة ليست هي وليد لحظة ولا عدسة لمحة،  لذلك لا بد من  تصفيتها استراتيجيا وخطة مدبرة تستهدف حبات الفتنة والفساد لإفشالها، وهناك عديد من المصادر والموارد التي تصنع أصالة التوتر والتدهور فيها حتى تنورت عدة روايات وحكايات وقصص عارية من الحق والحقيقة، ونائية من إرادة هذا الشعب الأبي، يساومون كشمير من غير ملكية ولا أحقيه، ويتنافس الصحفيون ورجال التلفزة لإحياء مقاطعهم ومواقعهم بهذه "الجنة المبتورة"، وقد أصبحت قضية كشمير بالنسبة لهم قضية اصطناعية، قضية لتسخين القنوات وإثارة الشباب.

  

كشمير تقوم على فوهة متهيئة الانفجار ولكن الوادي يسيل مطمئنا، في كنفها قصص الآلام التي روتها الأجيال، بل هي قيثارة الهند الخالدة وأوتارها الصناجة، لا تنكسر منها واحدة إلا تابعتها أخرى
كشمير تقوم على فوهة متهيئة الانفجار ولكن الوادي يسيل مطمئنا، في كنفها قصص الآلام التي روتها الأجيال، بل هي قيثارة الهند الخالدة وأوتارها الصناجة، لا تنكسر منها واحدة إلا تابعتها أخرى
 

وقد تقدم في هذه القضية المتنازعة من كان ينتمي إلى دولة باكستان حتى رفعوا هتافهم، ورددوا صداهم في كل المنابر الدولية والمنصات العالمية، فلا بد من قناة جديدة تحكم بالفكرة المسددة وتقف في أسوار محددة لئلا ينقلب الميزان وتتأرجح القسطاس، ولكن زعماء باكستان نجحوا في تشعيل هذه القضية في رصيفهم، وعرضها كأزمة أورثتها جمهورية الهند، ولكن دع الحق يتحدث بأن وكالة استخبارات باكستان تسري كحية تسعى، وتتدخل لتسليح العوام تحت جنح الظلام، ويستغلون لإضرام النار في أتون الجماعة الغاضبة.

  

وعد من لا يستحق لمن لا يملك
 حقاً كانت كشمير نقطة علاقة وثيقة بين الجارتين، تختلف عليها نعرات الأخوة الأسرية والتضامن الاجتماعي والأمن القومي، وكانت لها مكانة عميقة الجذور في ترسيخ المحبة في أفئدة الشعبين، ولكن لو حلت العواطف مكان الفكرة وحلت المشاعر محل التعبيرات فلا بد من وعي شامل عن هذه الخطط العارمة، والسبب الأوجه لهذه المشكلة هي عدم معرفة العدو الحقيقي، والانقطاع من تاريخها الهائج، لأن الهند التي عاشت زمنا طويلا تحت سطوة المملكة البريطانية تعرضت عشوائيا لهذه الهوة الخطرة، بأن بريطانيا التي رسمت خطة الخلاف وأبقت شرارته تندلع في الحدود هي نفسها تقف وراء هذه الأزمات المتأججة، "ستعلم إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار".

  
فإن كشمير تقوم على فوهة متهيئة الانفجار ولكن الوادي يسيل مطمئنا، في كنفها قصص الآلام التي روتها الأجيال، بل هي قيثارة الهند الخالدة وأوتارها الصناجة، لا تنكسر منها واحدة إلا تابعتها أخرى، ولكن الصمود والوقوف على وجه التفكك، والثبات النادر الذي شاهده التاريخ خلال أزمانها الغابرة يعبر عن شعب يسير مع تاريخهم ولا يخضع لمن يسيء الظن بهم، وهناك رجال يحسنون صناعة الموت ويغازلون الأرواح والأطياف، "فمن رحم الآلام نعبر منتصرين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.