شعار قسم مدونات

تأسيسيات الحركة الجهادية (1)

blogs تنظيم داعش

كان خوارج الأمس منهم الشعراء والعلماء والنحارير في الدين واللغة، مما كان يتطلب جهداً من أهل الذكر لتفنيد طرحهم للعامة، ونظرة دقيقة في مناظرة عبد الله بن عباس مع زعماء الخوارج توقفنا على أن طرحهم كان عميقاً وكانت لهم رؤية في الدين والدولة، والحكم والسياسة. ولم ينشأ تيار الخوارج أولا بسبب استبداد أو فساد بل نشأ كفكرة في ظلال الخلافة الراشدة بعد وفاة النبي بثلاثين عاما فقط. فكان الذي ينتمي للخوارج ينتمي إليهم بسبب اقتناعه بالفكرة وتأثره بها لا كرد فعل عاطفي على استبداد نظامٍ سياسيّ، أو ممارسات شنيعة.

 

أمّا الحركات الجهادية العنيفة اليوم فصارت لا ملامح لها، فمنذ نشأتها وهي متشظية في جسمها وحركتها وفكرها ورؤيتها للدين والدولة والحكم والجمهور. وصارت مأوى لأنصاف المتعلمين، ومن لا علاقة لهم بفلسفة الحكم، وفلسفة الشريعة بل إن قادة التنظيمات اعترفوا بجهل تلك الحركات بالفقه والشريعة كعاصم أبي حيان في الجزائر وناجح إبراهيم ورفاقه من القادة في المراجعات الشهيرة للجماعة الإسلامية.

 

أحداث القتل والهجمات لا ينبغي أن ننظر إليها نظرة سطحية، بل لابد من قراءة تلك العقليات التي تقدم على مثل تلك العمليات، وكيف بررت لنفسها هذا الصنيع
أحداث القتل والهجمات لا ينبغي أن ننظر إليها نظرة سطحية، بل لابد من قراءة تلك العقليات التي تقدم على مثل تلك العمليات، وكيف بررت لنفسها هذا الصنيع
 

وأكثر المنضمين للحركة العنيفة اليوم من باب العاطفة كردّ فعل على ظلم أو فساد أو استبداد، لا من باب العلم، ويمكن القول أن العلاقة طردية بين المظالم ونمو تلك الحركات، حسب رضوان السيد. ومن ثم فإذا وُجدت الدولة العادلة التي تساوي بين رعاياها ربما تلاشت تلك الحركات أو خفتَ لهيبها عما هو عليه اليوم. لكن هنا لا يمكن أيضا تجاهل التداخل بين النفسي والبيئي والثقافي وطرائق التنشئة، بمعنى أنّ البعض وإن انضمّ لهذه الحركات مناهضة للنظام السياسي إلا أنّ هناك عوامل نفسانية وشخصانية تعتري هؤلاء الأفراد، خاصة في ظلّ غياب القواعد الحاكمة لإدارة هذه المجموعات، ومؤسسات داخلية للمراقبة والمحاسبة، مما يؤدي كل فترة إلى تحول أسلحة تلك العناصر إلى صدور بعضهم البعض، وممارسة الاغتيال الداخلي والصراع على المناصب القيادية داخل تلك التنظيمات.      

 

وأحداث القتل والهجمات لا ينبغي أن ننظر إليها نظرة سطحية، بل لابد من قراءة تلك العقليات التي تقدم على مثل تلك العمليات، وكيف بررت لنفسها هذا الصنيع، وما مكوناتها العلمية والفلسفية، وتأسيسياتها الفقهية. فعندما يُقتل جنودٌ في سيناء أو أفراد من الشرطة المصرية نجد أنّ بعض الشباب يتناول هذه الحوادث من باب العواطف مبررين إياها بالملف السيء والسيء جدا للجهاز الأمني المصري، بيد أن هذا أمر آخر، فإنّ ما يعنينا هو تكييفها الشرعي.

 

كانت هناك عناصر ونماذج تمارس دور الكوابح والفرامل لتلك الفئة العمرية من الشباب، الآن انقرضت هذه العناصر، أو اختفت خوفا من هجوم تلك القواعد عليها

لا شكّ أن العوام يفكرون بعواطفهم، ولكن عندما نجد أناساً من المفترض أنهم منظّرين للحركية الإسلامية يتناولون هذه الحوادث بذات الأسلوب الذي يتناوله به العوام فنحن أمام تحول خطير وخطير جدا في مسار الحركية الإسلامية، فبعد أن كانت تنقسم إلى تقليدية وجهادية، صارت برمتها جهادية، أو موفرّة للحواضن الجهادية، أو داعمة أو صامتة. وهذا خطير جِدّ خطير ليس على الدولة المصرية كدولة، ولا على النظام السياسي الذي يُجيد التعامل مع مثل هذه الجماعات العنيفة منذ السبعينات وحتى اليوم، وربما يجيد توظيفها واستغلالها أحياناً، وقد حُسمت كلّ المعارك لصالحه منذ نشأة تلك الجماعات بعد إعدام سيد قطب، وآلت ببعضها إلى التوبة والمراجعات الفكرية كما هو الحال مع الجماعة الإسلامية، وآلت بالبعض الآخر إلى التشتت والهجرة، وتكوين بؤر في مواقع وبيئات مغايرة، كما حدث مع مجموعات الجهاد.

 

وإنما تكمن خطورة مثل هذه التحولات في التشويه الذي أصاب جسم الحركية الإحيائية كله، فكان هناك يمين ويسار ووسط، واليوم صار الجميعُ يميناً ويساراً لا وسط بينهما، وهذا وإن لم يكن على مستوى قمة الهرم، إلا أنّه صار متغلغلا بين الحواضن الشعبية والقواعد الجماهيرية لتلك الإحيائيات.

 

كانت هناك عناصر ونماذج تمارس دور الكوابح والفرامل لتلك الفئة العمرية من الشباب، الآن انقرضت هذه العناصر، أو اختفت خوفا من هجوم تلك القواعد عليها، فلم نجد اليوم أمثال الشيخ الغزالي رحمه الله الذي خاض معارك شرسة ضد التكفيريين والمتطرفين، رغم أنه نفسه كان الرقيب على كتب سيد قطب التي تخرج من السجن، للجماهير.

 

ثنائية التكفير فالقتل

الفقه الإسلامي وعلم الكلام الإسلامي لا تلازم فيهما بين التكفير والقتل، فكم من كافر معصوم الدم والعرض والمال، وكم من مسلم مهدور الدم. ومن ثمّ فثنائية القتل والتكفير ليست واردة في الفكر الإسلامي. ولذلك تجد كتب الفقه والكلام مليئة بتكفير المخالفين، وكان الفقيه والمتكلم عندما يذكر هذه الكلمة كان يقصد مدلولها المقرر في الدرس الحوزوي، أمّا اليوم فتحولت كلمة التكفير وخرجت من سياقها المقرر في الدرس الفقهي والكلامي، على يد جماعات العنف، لتصير مرادفة للقتل، فكل كافر لابد أن يُقتل.

 

هذا التطور والتحول في استخدام المصطلح ودلالته، أدى بحكم الصيرورة الاجتماعية لتطور الأفكار ونموها سلبا أو إيجاباً إلى تجويز قتل المخالفين من غير قيود أو قواعد حاكمة، فلا قضاء عادل ونزيه، ولا دفاع، ولا محكمة، فمجموعةٌ ترى أنّ كل ضباط الجيش والشرطة يجب أن يُقتلوا، ثمّ يتحول هذا الفكر إلى تطبيقٍ عمليّ على الأرض، ثمّ نجد التبريرات السياسية والشرعية على السوشيال ميديا لهذا الفعل! ثم يتعدى الأمر ليشمل المتعاونين والمقربين من الأجهزة الأمنية، ثم يتعدى ليشمل الناس العاديين. ومجموعات أخرى ترى وجوب قتل كل الشيعة لأنهم شيعة، ثمّ يتداخل ما هو شيعي مع ما هو إيراني مع ما هو ميلشياتي في الخطاب الجهادي بدون تفكيك لكل هذه المتشابكات، وبدون أدنى محاكمات كما قلنا!

 

في الجزائر قامت التنظيمات الجهادية العنيفة باغتيال أفراد بعضها البعض، ونشب التصدع والصراع الداخلي حتى قُتل عشرات القادة والمشايخ والمنظّرين في هذا الصراع
في الجزائر قامت التنظيمات الجهادية العنيفة باغتيال أفراد بعضها البعض، ونشب التصدع والصراع الداخلي حتى قُتل عشرات القادة والمشايخ والمنظّرين في هذا الصراع
 
من يُمارس التكفير والقتل؟

من المفترض فقهياً وسياسياً، قديماً وحديثاً أن مهمة القتل والتكفير ليست من مهامّ الفقهاء، فضلا عن العوام والدهماء، فتطرق الإمام القرافي إلى مثل هذا الفكر وقال إنه لا يجوز للقاضي فضلا عن غيره قسمة الغنائم أو ترتيب الجيوش، أو قتال البغاة، ونحو ذلك إلا بإذن الإمام. وقريباً من هذا يُقرره الجوينيّ في الغياثي بقوله: "وإنما لم يُجعل لآحاد الناس شهرُ السلاح ومحاولة المِراس في رعاية الصلاح والاستصلاح، لما فيه من نفرة النفوس والإباء والنِّفاس". لكن ماذا لو فُتح الباب على مصراعيه لتلك الحركات لشهر السلاح؟ الإجابة تاريخياً وآنياً معلومة بتجارب تلك الحركات ذاتها.

 

ففي الجزائر قامت التنظيمات الجهادية العنيفة باغتيال أفراد بعضها البعض، ونشب التصدع والصراع الداخلي حتى قُتل عشرات القادة والمشايخ والمنظّرين في هذا الصراع. وفي مصر اغتيل صحافيين ومفكرين ومدنيين بالتترس في السبعينات والثمانينات، وفي أفغانستان اقتتلت الفصائل المسلحة بعد هزيمة الروس، وفي سوريا اليوم أدى التناحر والقتال الداخلي إلى حسم المعركة لصالح طهران. معنى هذا كله أنّ هذه الحركات لا تفهم العالم إلا ساحة صراع واقتتال، وكل جماعة تصبغ نفسها بالشرعية الدينية والسياسية، ثمّ تنشق عنها مجموعة وتصبغ نفسها بالشرعية أيضا، ويحدث الاقتتال بين الفريقين على الشرعية المتجاذبة بينهما، وهكذا. ذلك لأن تلك التيارات جعلت نفسها الجماعة والجماعة هي، ولم تبال بالأمّة ولا بالجماهير، بل كان من ضمن نقاشها الداخلي الخلاف حول تكفير العوام، فالجهادية المصرية في السبعينات كانت تكفر العامة، في حين امتنعت الجماعة الإسلامية المسلحة عن تكفيرهم.  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.