شعار قسم مدونات

لا تمتْ أكثر من مرة

blogs تفكير

الكتابة على الهامش خروج عن المألوف.. هذا ما تلقنّاه في الصفوف الابتدائية، قبل كتابة أول حرف حتّى. الصفحات مُعدّة مسبقاً، الخطوط أفقيّة، دفاتر مخصصة للحساب حيث تكثر النقاط وخطوط الطول والعرض. لم أفهم يوماً لمَ كانت الصفحات البيضاء أو حتى السوداء مادة للرسم والتلوين فقط. هذا الفصل الغريب بين برجوازية الرياضيات وجموح الفن.. حتى في مرحلة مبكرة يطرح سؤالاً غريباً بعض الشيء.. هل يأتينا الموت مرة واحدة؟

هذا الخط الرفيع بين النص وفراغ النص، بين الهامش والوجود، بين ذاك السجن العملاق وحرية البراري.. بمنتهى الهشاشة والخطورة. منذ نعومة أظفارك تتعلم كيف تلتزم بالدوائر وتتبع نقاطاً كي تخلص إلى شكل يقنعونك بأنه حرف، وتنال بعدها على رأسك "طبعة" مضحكة أو نجمة لا تشبه حتى النجمة التي تراها ليلاً. تخيل النجوم تشرق على جبينك قبل أن تشرق في السماء.

عالمنا بمنتهى الغرابة.. نقاتل، نموت، نحيا، نصرخ، نبكي، نضحك… الشعور لا بدّ منه. ردة الفعل لا بدّ منها.. لكن ماذا عن المبادرة بالفعل؟ واستباق الشعور؟ نحيا سنوات من الانتظار والترقب. ترقب النجاح، الخوف من الفشل، انتظار "القدر" و"القسمة والنصيب".. انتظار "الفرصة الكبرى" وترقب سقوط الأنظمة.. نحيا سنوات ونحن نعتقد بأن خياطة الجرح لا تترك أثراً والشعور بالألم لا بدّ منه. تفسيرنا الوحيد: تلك هي الحياة..

 

زحمة السير تلك تشبه زحمة الحياة لحدّ جنوني، أمر لا بدّ منه.. نعتاده.. نتنفسه.. وندرجه في مخططنا الأسبوعي وربما على المدى الطويل يصبح كالرقم الثابت في معادلة رياضية بالغة التعقيد
زحمة السير تلك تشبه زحمة الحياة لحدّ جنوني، أمر لا بدّ منه.. نعتاده.. نتنفسه.. وندرجه في مخططنا الأسبوعي وربما على المدى الطويل يصبح كالرقم الثابت في معادلة رياضية بالغة التعقيد
 

لا.. ليست هي الحياة.. بل هذا ما نختار أن نحيا.. نحن من نقوم بإعداد المنبّه ليلاً، و"إسكاته" نهاراً… نحن من نقوم ب"كيّ" القميص على عجلة، والتمييز بين لون "كرافات" وآخر على مهل.. نحن من نقوم بحشر أصابعنا الخمسة بحذاء لا يتّسع لثلاثة! نحن من نلقي تحية الصباح جهراً والشتيمة سراً، على مدير أحمق، يعاملنا كالجرذان العالقة في قفص لأننا لا نملك خياراً آخراً.. نحن من نكرّر العدّ من الصفر للإثني عشر يومياً، كما كنا نفعل حين كنّا في الصف الإعدادي.. وربما نكتبها دون المساس "بالهامش المقدّس".. حتى يحين موعد العودة لزحمة السير.

زحمة السير تلك تشبه زحمة الحياة لحدّ جنوني، أمر لا بدّ منه.. نعتاده.. نتنفسه.. وندرجه في مخططنا الأسبوعي وربما على المدى الطويل يصبح كالرقم الثابت في معادلة رياضية بالغة التعقيد. الحياة بالغة التعقيد… أوَ ليس هذا ما نعتقد؟ والموت بسيط للغاية، لأننا نجهله.. أنت الذي اعتدتَ تجنب "الهوامش" لماذا لم تقطع مرحلة "الإعدادي" بعد؟

الحرية.. هي ذاك الخيط الرفيع.. بالغ الهشاشة.. سهل.. ومعقد للغاية.. تخطّاه.. أو اعتزل الورق.. لماذا عليكَ أن تحبّ مرة واحدة؟ وأن تحيا أقلّ من مرة؟ لماذا عليكَ أن تملي على أناملك أين تكتب أو ماذا تكتب؟ لماذا الخوف من ظلم حاكم؟ أو قرار قاضٍ مأجور.. أو هجوم طائرات عدوّ؟ لماذا الخوف ممن هم أكثر خوف منك؟ 

حيث تكمن الحرية، تحيا آلاف المرات.. وتموت مرة واحدة.. فكن حراً! أو كن
حيث تكمن الحرية، تحيا آلاف المرات.. وتموت مرة واحدة.. فكن حراً! أو كن "متسكعاً على الهامش".. القرار لكَ وحدك..
 

لم تكن القصور يوماً والسيارات المصفّحة مصدر حياة أو مصدر إلهام.. ولا "الهامش" فارغاً.. وممنوع من اللمس.. فتخطّى تلك الهواجس الفارغة.. عانق الكون وقبّله بين عينيْه لأن الكون يرى. اخلع الحذاء الضيّق وانتزع "حبل المشنقة المزخرف" عن رقبتك.. ساعة "الرولكس" تصبح ساخنة تحت أشعة الشمس، ارمِها في مكان ما، أو بكل بساطة اقتلع الشمس من السماء. الحياة بسيطة لهذا الحدّ.. واتخاذ القرار أبسط.

هو قرار واحد.. كن حراً.. ولا تمت أكثر من مرة! هو قول واحد، حقيقة واحدة، ومصير واحد.. أنا حر! وهذا العالم عالمي.. هذا العالم لم يكن يوماً ملكاً حصرياً لحاملي الأوراق و"الختم" الرسمي حتى.. هذا العالم لم يكن كالحذاء صنع كي يتسع لأقدام فانية.. هذا العالم خُلقَ ليبقى.. وأنت خُلقتَ لتفنى.. فكن متفانياً! لقضية، لهدف، لحلم، لواقع.. لشخص.. لفكرة.. كن متفانياً لصورة ولصوت.. لا لدائرة وخط ومقطع.. كن متفانياً ولا تتسكّع على الهوامش، وتقع بين "نتوءات" الحروف.. لا تنزلق بين السطور من صفحة لأخرى.. لأن الدفتر عند آخر صفحة يصبح ورقة ملوّنة!

هنا تقع الكارثة.. تكتشف بأنك غرقت بين روتين "الخطوط الجالسة" كي ينتهي بك الأمر في هامش كبير.. يحمل صورة.. فكرة.. قضية.. أو اسمك حتى.. لا تكن ساذجاً.. أسير الصف الأول الابتدائي.. وكن حراً.. حيث تكمن الحرية تكثر "الهوامش".. يكون العناق طويلا.. والكلمة ترافق صداها.. حيث تكمن الحرية تعود طفلاً.. لا يعرف كثيراً عن الحرف.. لكن لا يمضي ساعات ينتقي ربطة عنق، ويدلّك أصابعه المرهقة. حيث تكمن الحرية، تحيا آلاف المرات.. وتموت مرة واحدة.. فكن حراً! أو كن "متسكعاً على الهامش".. القرار لكَ وحدك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.