شعار قسم مدونات

نظرية التطور.. هل تعني الإلحاد؟

Blogs- evolution
تعتبر نظرية التطور لصاحبها ”داروين” السلاح الأقوى الذي يستخدمه الطرف الملحد في مناظراته مع الطرف المؤمن، ولا تكاد تمر معركة بين الإيمان والإلحاد دون ذكر نظرية التطور وحيثياتها وتبعاتها، ظنّاً من الطرف الملحد أنّها تعني القضاء على قصّة الخلق التي جاءت بها الأديان.

النظر لنظرية التطور بسطحية، دون سبر أغوارها، ودون سبر أغوار النصوص القرآنية، جعلت كلّاً من الطرفين يتصلّب ويتجمّد على موقفٍ واحد، المؤمن يعتبر نظرية التطور أكذوبة علمية كبيرة يدحضها بنصوص القرآن الكريم، والملحد يعبترها حقيقة علمية تُدرّس في معظم الجامعات العريقة ويستغلها استغلالاً بشعاً مثيراً للغثيان في دحض قصّة الخلق ونفي وجود الإله كليّة. هذا الفهم السحطي من قِبل الطرفين، أدى في نهاية المطاف إلى حالةٍ من التطرف، فالطرف المؤمن يرفضها، والطرف الملحد يقبلها ويجدُ فيها ضالته المنشودة لدحض قصة الخلق ونفي وجود الإله .

لقد تجاهل كلّاً من الطرفين المنهج السوّيِ في استخدام وقبول أو رفض النظرية فالطرف المؤمن يرفض النظرية رفضاً مطلقاً ويهرب منها ظنّاً منه أنّها تعني الإلحاد، ويقوم بهذا الرفض عن طريق الاستشهاد بآيات القران الكريم وغفل أنّه إن أراد أن يرفض نظرية كهذه فعليه أن يفعل هذا عن طريق العلم، لا عن طريق الرفض القائم على الاستشهاد بالآيات القرآنية، فإن هذا يجعل المعركة الفكرية تفتقر للرد الرصين، سيّما وأنّ الطرف الملحد لا يؤمن بالقران أصلاً، والطرف الملحد يستغل النظرية لإسناد فكرة الإلحاد على قاعدةٍ صلبة، ظنّاً منه انّ النظرية تعني الإلحاد أيضاً.

   
ولكن.. هل تعني نظرية التطور الإلحاد؟ كلّا! إنّ هناك عدداً من آيات القرآن الكريم ”ربما” تشير إلى أنّ نظرية التطور قد تكون حقيقة فعلاً، دون أن تتعارض مع قصة الخلق ووجودِ الإله، في الحقيقة لقد استطاع القرآن الكريم احتواء نظرية التطور – إنّ كانت حقيقة – بل واستطاع تفسير الجانب الإنساني والروحي للإنسان، والذي عجزت عن تفسيره الفلسفة المادية بأسرها. في البداية إنّ القرآن الكريم يحفّزنا على أنّ نتفكر ونتدبر في كيفية بدء الخلق 1. "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" العنكبوت 20.

لماذا تُصر الآيات القرآنية على التفصيل في مراحل خلق الإنسان، إنّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، كان من الممكن أنّ تذكر الآيات القرآنية فقط أنّه قال للإنسان كنّ
لماذا تُصر الآيات القرآنية على التفصيل في مراحل خلق الإنسان، إنّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، كان من الممكن أنّ تذكر الآيات القرآنية فقط أنّه قال للإنسان كنّ
 

"وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)) السجدة، في هذه الآيات الكريمة دلالة واضحة على أنّ خلق الإنسان من طين مجرّد بداية تلته عدّة مراحل بينها فواصل زمنية قبل الوصول الى صورته الأخيرة.. وقد تكرر ذكر كلمة ”ثمّ” التي تدل على الترتيب مع التراخي في الزمن، فالمسألة ”ربما” ليست مسألة لحظية بين الخلق من الطين والتسوية والنفخ، وإنّما التراخي في الزمن هنا قد يدلُ على أنّ المسافة بين كلِّ مرحلة قد تكون طويلة وطويلة جدا.
 
"وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (11) الأعراف، في هذه الآية الكريمة أيضاً إشارةً على أنّه قد يكون هناك مدة زمنية بين الخلق والتصوير، نستدل عليها من خلال استخدام ”ثمَّ التي تكرر ذكرها في هذه الآية. "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) الأنعام، لو غضضنا الطرف عن تفسير المفسرين لهذه الآية الكريمة، ونظرنا إلى  "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" دون أن نتحيّز هنا أو هناك، لو نظرنا إليها هكذا بكلِّ بساطة لوجدنا أنّها قد تتفق مع نظرية التطور في أننا قد جئنا من ذرية أُخرى ومن قومٍ آخر غير الإنسان الذي نعرف.
 
لماذا تُصر الآيات القرآنية على هذا التفصيل في مراحل خلق الإنسان، إنّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، كان من الممكن أنّ تذكر الآيات القرآنية فقط أنّه قال للإنسان كنّ، فانتفض كائناً إنسانياً مكتملاً تدب فيه الحياة مباشرة دون ذكر عددٍ من التفاصيل التي قد تعطينا معانٍ ربما تحمل الوجه الذي نتحدث فيه؟

ما المانع في أنّ هذا الإنسان الذي أُعد للأمانة الكبرى في الوجود، أن تكون مراحل تكوّنه قد استغرقت مدّة زمنيّةً طويلة جداً تحت العناية والإشراف والتدبير الإلهيّ الدقيق المحكم؟ ما المانع في أنّ هذا الكائن عندما وصل إلى أعلى درجات التطور كرّمه الله ونفخَ فيه من روحه وأخذه الى الملأ الأعلى وأسجد الملائكة له ليدلل على الشأن العظيم الذي ميّزه الله به عن باقي المخلوقات، ثمّ خلق حواء من ضلعه حتى يكون النسل القادم نسلاً مميزاً منفصلاً عن نسله القديم؟ أليست هذه المدة الطويلة، تحت مجهر التدبير الإلهي، والإعداد على هذا النحو الطويل المتراخي أكرمُ للإنسان الذي اُعدَّ لهذه الأمانة الكبرى؟

إنّ آيات القرآن الكريم تعطينا إشارةً واضحة على أنّ التطور قد يكون حقيقة، شئنا أم أبينا، فآيات القرآن تحمل هذا الوجه، ولست معنياً كثيراً في أن تَثبُت النظرية أو لا، تصح أو لا تصح، كلّ الذي يعنيني أنّها لا تعني الإلحاد مطلقاً، والذي يريد أنّ يرفضها عليه أنّ يرفضها بالعلم لا بالدين، ثمّ إنّ الذي يستخدمها من أجل إثبات إلحاده عليه أنّ يعلم أنّها لا تعني الإلحاد البتة. ولكن.. هل أعطت نظرية التطور تفسيراً كاملاً لخصائص الإنسان بإنسانيته وأخلاقه وشعائريته؟ كلّا!

الأشياء التي تملأ العالم الإنساني، لا يمكن تفسيرها إلا في ظلال الدين، التمهيد السماوي، العالم الآخر الذي جاء منه هذا الإنسان بهذه الصورة الإنسانية
الأشياء التي تملأ العالم الإنساني، لا يمكن تفسيرها إلا في ظلال الدين، التمهيد السماوي، العالم الآخر الذي جاء منه هذا الإنسان بهذه الصورة الإنسانية
 
إنّ التفسير المادي، يقف مكتوف الأيدي أمام عددٍ من الخصائص الإنسانية ويعجز كلّ العجز عن تفسيرها أو التعليق عليها، لقد نجح التفسير المادي في تفسير النمو البيولوجي للإنسان وظواهر حياة الإنسان، لكنّه في المقابل يعجزُ كلّ العجز عن تفسير جوهر إنسانية الإنسان. يتميز الإنسان بإنسانيته، والتي تعد مفرق الطريق بيّنه وبين الحيوان الكامل المتطور حسب التفسير المادي. 
       
إنّ التاريخ الإنساني حافل بالمشاهد التي خرج فيها عن طبيعة الحيوان الكامل الذي يريده المادّيون، إنّ الحيوان الذي جاء منّه الإنسان، قائم على المنفعة والكفاءة الذاتية، كائن يخضع لقوانين الطبيعة الحتمية الصارمة.. لو تطور الإنسان إلى أعلى درجات التطور، فمن أين له أنّ يجيء بالأعمال التي قام بها بروحه مثل الفنّ؟ إنّ الرسم والشعر والموسيقى، قد أبدعها الإنسان بروحه لا بكيانه المادي، فكيّف يمكن لحيوانٍ كامل وصل لأعلى درجات التطور في طبيعة تسير بقوانين حتمية صارمة أنّ يجيء بهذه الأشياء الخارجة عن طبيعة الحيوان والمادة؟
      
إنّ الإنسان يتمتع برأسِ مالٍ أخلاقيّ هائل، والأخلاق تتعارض مع طبيعة الحيوان، فالأخلاق فيها رفض كاملٌ وتمرد على المبدأ الحيواني القائم على المنفعة، من أين جاء بها الإنسان، كذلك الخير والشرّ، الظلم والعدل، الصواب والخطأ، كلّ هذه المعاني خارجة عنّ عالم الطبيعة الحتمية والحيوانية، إنّها جاءت من عالمٍ آخر غير الذي يعرفه الحيوان المتطور. حتّى الدين، كيف للحيوان المتطور أنّ يجيء بالدين؟والشعائرية؟ كلّ هذا خارج عنّ إطار العالم المادي الحتمي.

إنّ هذه الأشياء التي تملأ العالم الإنساني، لا يمكن تفسيرها الا في ظلال الدين، التمهيد السماوي، العالم الآخر الذي جاء منه هذا الإنسان بهذه الصورة الإنسانية. لا يعلم الملحد أنّ ذكره للمبادئ الأخلاقية، فكرة الخير والشر، الظلم والعدل.. إلخ، تعني نهاية إلحاده، فمن أين له بهذه المعاني ما دام هو ابن الطبيعة والمادة بقوانينها الحتمية؟ هذه القضايا، لا يمكن تفسيرها دون التمعن في الماورائيات والميتافيزيقا. نعم .. لقد نجح الدين في تفسيرها، وعجزت الداروينية والمادية عن تفسيرها، لقد عجزت الداروينية عن احتواء الدين، ونجح الدين في احتواء الداروينية!

 
إنّ الداروينية لا تعني الإلحاد مطلقاً، وليس علينا أنّ نهتم إن ثبتت النظرية أم لم تثبت، فهي لا تعني أيّ شيء للدين ولا تدحض أيّ شيء فيه. في النهاية، ليست هذه الأفكار بنات أفكاري ونتاجي الخاص، فإنّي إنّ قلت هذا قد تحليت بحلية السرق، وإنما هي مجردُ أفكارٍ قد تكرر ذكرها، أحببت أن أجمعها هنا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



إعلان