لقد تجاهل كلّاً من الطرفين المنهج السوّيِ في استخدام وقبول أو رفض النظرية فالطرف المؤمن يرفض النظرية رفضاً مطلقاً ويهرب منها ظنّاً منه أنّها تعني الإلحاد، ويقوم بهذا الرفض عن طريق الاستشهاد بآيات القران الكريم وغفل أنّه إن أراد أن يرفض نظرية كهذه فعليه أن يفعل هذا عن طريق العلم، لا عن طريق الرفض القائم على الاستشهاد بالآيات القرآنية، فإن هذا يجعل المعركة الفكرية تفتقر للرد الرصين، سيّما وأنّ الطرف الملحد لا يؤمن بالقران أصلاً، والطرف الملحد يستغل النظرية لإسناد فكرة الإلحاد على قاعدةٍ صلبة، ظنّاً منه انّ النظرية تعني الإلحاد أيضاً.
"وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (9)) السجدة، في هذه الآيات الكريمة دلالة واضحة على أنّ خلق الإنسان من طين مجرّد بداية تلته عدّة مراحل بينها فواصل زمنية قبل الوصول الى صورته الأخيرة.. وقد تكرر ذكر كلمة ”ثمّ” التي تدل على الترتيب مع التراخي في الزمن، فالمسألة ”ربما” ليست مسألة لحظية بين الخلق من الطين والتسوية والنفخ، وإنّما التراخي في الزمن هنا قد يدلُ على أنّ المسافة بين كلِّ مرحلة قد تكون طويلة وطويلة جدا.
"وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (11) الأعراف، في هذه الآية الكريمة أيضاً إشارةً على أنّه قد يكون هناك مدة زمنية بين الخلق والتصوير، نستدل عليها من خلال استخدام ”ثمَّ التي تكرر ذكرها في هذه الآية. "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) الأنعام، لو غضضنا الطرف عن تفسير المفسرين لهذه الآية الكريمة، ونظرنا إلى "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" دون أن نتحيّز هنا أو هناك، لو نظرنا إليها هكذا بكلِّ بساطة لوجدنا أنّها قد تتفق مع نظرية التطور في أننا قد جئنا من ذرية أُخرى ومن قومٍ آخر غير الإنسان الذي نعرف.
لماذا تُصر الآيات القرآنية على هذا التفصيل في مراحل خلق الإنسان، إنّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، كان من الممكن أنّ تذكر الآيات القرآنية فقط أنّه قال للإنسان كنّ، فانتفض كائناً إنسانياً مكتملاً تدب فيه الحياة مباشرة دون ذكر عددٍ من التفاصيل التي قد تعطينا معانٍ ربما تحمل الوجه الذي نتحدث فيه؟
إنّ آيات القرآن الكريم تعطينا إشارةً واضحة على أنّ التطور قد يكون حقيقة، شئنا أم أبينا، فآيات القرآن تحمل هذا الوجه، ولست معنياً كثيراً في أن تَثبُت النظرية أو لا، تصح أو لا تصح، كلّ الذي يعنيني أنّها لا تعني الإلحاد مطلقاً، والذي يريد أنّ يرفضها عليه أنّ يرفضها بالعلم لا بالدين، ثمّ إنّ الذي يستخدمها من أجل إثبات إلحاده عليه أنّ يعلم أنّها لا تعني الإلحاد البتة. ولكن.. هل أعطت نظرية التطور تفسيراً كاملاً لخصائص الإنسان بإنسانيته وأخلاقه وشعائريته؟ كلّا!
إنّ هذه الأشياء التي تملأ العالم الإنساني، لا يمكن تفسيرها الا في ظلال الدين، التمهيد السماوي، العالم الآخر الذي جاء منه هذا الإنسان بهذه الصورة الإنسانية. لا يعلم الملحد أنّ ذكره للمبادئ الأخلاقية، فكرة الخير والشر، الظلم والعدل.. إلخ، تعني نهاية إلحاده، فمن أين له بهذه المعاني ما دام هو ابن الطبيعة والمادة بقوانينها الحتمية؟ هذه القضايا، لا يمكن تفسيرها دون التمعن في الماورائيات والميتافيزيقا. نعم .. لقد نجح الدين في تفسيرها، وعجزت الداروينية والمادية عن تفسيرها، لقد عجزت الداروينية عن احتواء الدين، ونجح الدين في احتواء الداروينية!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.