شعار قسم مدونات

لم أشتك بعد

Blogs- family

كنتُ واقفةً ألبّي نداء جوعهم بينما لا زلتُ أحتفظ بما تبقى من حيويتي التي نفذَ جزءٌ منها خلال ساعات العمل، إذ تعلو أصواتهم مختلفين متشاكسين على مجموعة الليجو التي ينوي كلاهما الانفرادَ بها لنفسه، هو يشتكي تمردها، وهي تبكي من تفرّده. أحاول التوفيق بين رواياتهم المتضاربة لأجدني أذنبتُ في تتبع ردودهم، وأتراجع عن دور المحقق الشهير، أقصى ما يمكنني فعله هو إعادتهم إلى غرفتهم ليضعوا النقطة الأخيرة بأنفسهم غير متأثرين بأيّ تدخلاتٍ خارجية، يأتي ذلك -بالتأكيد- بعد لازمة التأنيب المفترضة. أنا لم أشتكِ بعد!

      
طفلي الجميل يبلغ الثامنة من عمره، نبيهٌ، لماّح، ومتفوق لكننا لا نتوافق في طول أنفاسنا، سيما حين تدقّ الاختبارات المدرسية طبولها معلنة عن موعد النهائيات، الحقيقة أن لديّ شعورٌ عميق بالانتماء لأوراقه، أدقّقها كأنني أحد نظرائه المتلوّة أسماؤُهم في قائمة المتنافسين الأوائل، عمرو يصارع الزمن ليتمّم المقرّر ويشعر بالاشمئزاز حين أكرر على مسمعه بعض السطور ليحفظها عن ظهر قلب "أعرفها.. أعرفها " ثم يقتنص فرصة الهروب في أول انشغال لي عنه.. لا يُحزنني كثرة تأففه ولن تدفعني علامته المنقوصة لتغيير حالتي النفسية على فيسبوك لأشعر "بالكآبة". أنا لم أشتكِ بعد!
 

"طفلي يرفض عملي خارج المنزل" أذكر جيدا كيف تشربكت مشاعرها حين أسررتُ لها بذلك، بذهولٍ أجابتني" لم أسمع إلا عن زوج يمنع زوجته" قلت لها: سيدتي العزيزة. أعتذر عن استمراري في العمل معكم، لقد تعاظم القهر في قلبه، حتى بدا لي طفلاً آخر" أبت أن تُقنع نفسها بقراري، حتى أنها منحتني شهراً إضافياً لعلني أتدبر الأمر "اعتبريها إجازةً لنفسك، تعيدين فيها لملمة أوراقك" ختَمت قولها بذلك، متمنيةً مني تجاوز الأمر بصمودي مقابل رفضه. على رأس الشهر التالي حسمتُ صراعي مع الزمن، وقررت أنه "يمكنني البدء من جديد في وقتٍ لاحق إن أمكن ذلك، لكن لا مزيد من التضحية بشعوره اليوم" بالمناسبة لدي الآن فرصةٌ عملٍ أفضل، وطمأنينة أكثر، أنا لم أشتكِ بعد! ولن أشتكِ!

          

كلما جالستُ إحداهنّ أو قرأتُ إسرارها لمثيلاتها من السيدات في التجمعات الافتراضية، تشكو المرارة وتعيد تشغيل أقراصها المضغوطة بالحكاوي والشكاوى، تتذمر من سوء معاملتهم، عجزهم الدراسي، مشاكلهم الأسرية، طلباتهم الملحّة، تخبطهم، تطاولهم، تلعن ساعتهم والأثقال التي حُملتْ مُذ صاروا أرقاما جديدة في تعداد الأسرة، ثم تجوب بخيالها حقل أمنياتنا المعقودة بالماضي الجميل، حيث السّعة والفراغ، تبكي على أطلال الذكريات وتتمنى أن ليت الشباب يعود يوما "لا مهمات صعبة، لا مسئوليات، ولا أشغال شاقة".

   

أنّ لديّ أطفالاً لا يمثلون نماذجاً مكتملة البناء والتربية، هم يخطئون فأصوّبهم، يختلفون فأوجّههم، يقصّرون فأذكّرهم، وبدوري أحاول الانتفاع من التجارب المتوفرة دون أن أُشهر عيوبهم على أسماعكم
أنّ لديّ أطفالاً لا يمثلون نماذجاً مكتملة البناء والتربية، هم يخطئون فأصوّبهم، يختلفون فأوجّههم، يقصّرون فأذكّرهم، وبدوري أحاول الانتفاع من التجارب المتوفرة دون أن أُشهر عيوبهم على أسماعكم

         
في داخلي كثيرا ما أحاول تفسير الهستيرية التي تظهر أعراضُها على بعض الأمهات حين تصِف سلوك أشقيائها لتستجلب تعاطف الأقربين تجاه دورها المعقّد في تهذيب أطفالها، وترويض عصيانهم، وتدمغ معاناتها بالأدلة التفصيلية، ثم أراني كرهتُ قسوتي وأنا أبرر. كيف لي أن أندب على قدره لأنه أثقلني، وكيف لي أن أستعرض تقصيرها على الملأ لأنها عصتني، ثم كيف لي أن أجعل منهمـا علكة يمضغها الشامتون أنّا شاءوا، كيف لي أن أجعل علاقتي بأطفالي كمثلِ تاجرٍ هاوٍ يبيع خدمته ويقبض لقاءَها أرباحاً معجلة!

 
لا أعلم كيف يمكن لروابط الأمومة أن تتجرد من قيم الكتمان والتغافل والتسامح! كيف نسمح لألسنتنا أن تلوكهم في كل مقامٍ ومقعد، وكيف لنا أن نجعلهم هماً زائدا عن حاجاتنا! الحقيقة أنّ لديّ أطفالاً لا يمثلون نماذجاً مكتملة البناء والتربية، هم يخطئون فأصوّبهم، يختلفون فأوجّههم، يقصّرون فأذكّرهم، وبدوري أحاول الانتفاع من التجارب المتوفرة دون أن أُشهر عيوبهم على أسماعكم، أنا لن أشتكيهم، لن أتطاول عليهم في غيابهم، ولن أحيكَ سُمعتهم بلساني، سأمنحهم فرصة لصياغة أنفسهم عندما يستطيعون ذلك، أَحسَنوا في ذلك أم لم يحسنوا.
 
مذكرات نبوية تجول في خاطري حين أخرُج عن طور السكون إحداها كانت في جواب النبي الإمام على أصحابه المأمومين خلفه "يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ، أو أنه يُوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ".

 
الجدّ لم يشكُ سِبطيه، ولم يبرر لك فرط حركتهم ولم يتهمهما أمام أصحاب -حاشاه- بعدم التربية وقلة الذوق، لم يقل إنه يعاني تأديبهما وأنهما بحاجة لإقامة جبريةٍ داخل البيت لقاءَ ما ارتكباه. ألم تشعر أن حبيبك القدوة يُخبرك بأن كثرة الشكوى تَعدم الحبّ في القلب، وتورث بُغضك لخطأ أطفالك حتى تُقرّ باستعصائه عليك، ألم تفكر يوما أنك ستندم على كل الصور السوداوية التي طبعتها في عقولنا عنهم؟ ثم.. ألم يأنِ لنا جميعاً أن نتوقف عن ذلك! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.