شعار قسم مدونات

أزماتنا والحلول السطحية.. التعليم نموذجا!

blogs - تعليم
الأزمة بلا أدنى شك هي السمة الكبرى للتعليم. إن إشكالية التعليم ببلدنا الحبيب، إشكالية عويصة وما يَكــتَنـهُـهَا من صعوبات، فهي على ما يبدو أزمة فكر وأزمة واقع، ولعل ما يميز التعليم في هذه الربوع وجل بلاد العرب هو الأزمة والتخبطات التي يعيشها، فأصبحت هذه الصفة إحدى مميزاته. وبدوره أصبحت البلاد تراكم الأزمات في هذا القطاع. نظرا للعشوائية التي يُسير بها، بالإضافة إلى الطريقة التي تتخذ بها الحلول، فالتعليم مشكل مجتمعي ووطني؛ أي ما معناه أنه ليس مشكل طبقة، أو حزب، أو شخص معين، أو حكومة – وإن كانت هي المسؤول الأكبر في ترديه.

لذا

وما دامت هذه الأزمة مجتمعية كان من الضروري على جميع الأطياف أن تشارك في اتخاذ الحل، وألا يستبد طرف عن آخر برأي، ولا في سن المناهج الكفيلة بتدارك هذه الأزمات التعليمية، فالاستبداد بالرأي وإقصاء جميع مكونات المجتمع، ورفض صيغ الاختلاف والمغايرة، وكذلك سيادة الممارسات الأحادية واستفحالها هو ما يقف حاجزا أمام كل إصلاح منشود، فبدون أن تحل المشاكل نجدنا باستمرار في مواجهة مشكلة جديدة تَنْضَافُ إلى رُكام سابقاتها، لتزيدها ولتزداد بها تعقيدا بدون أن يُسهم الحل الجديد في تدارك المشاكل القديمة، ولا المشاكل القديمة يتم تداركها وإنتاج تراكمات معرفية ونقدية حولها تكون وعيا بالمسالة ووجها من أوجه حلولها.

الإصلاح يعتمد على الداخل، ولا يستجلب كنظريات جاهزة من الخارج، ويتم تطبيقها على واقع مغاير لا يستجيب لتلك الشروط التي أنتجت تلك النظريات

ولكن الذي يقع عكس هذا، فلا الحلول المطروحة تَحل مُشكلا ولا هي تَسلمُ من نعتها بالمشكل، فتصبح مشكلا جديدا يُضاف إلى ما تقادم، ومع هذه الخصوبة الأزموية المتسارعة في التطور-وهي ما يجلها أطرنا ومسؤولينا الذين كُــــلفوا بالبحث عن سبل تطبيب هذا الجسم العليل- تصبح الأزمات متراكمة وقد تبلغ حد الاستعصاء، وبالتالي يصبح إيجاد الانفراج شيئا يكاد يكون أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا، فلا انفراج ولا وجود حتى تباشير تدل على استشرافه مستقبلا، فنسقط في التردي والانتقال من السيئ إلى الأسوَأ، فيصبح الحل المرغوب فيه هو الحل الترقيعي الاستعجالي الذي يمكننا من تجاوز الأكثر سوءا والقبول بأدنى منه.

نستطيع أن نقول إنه ثمة هناك وعي نسبي بالأزمة؛ لأنه إن لم يكن هناك وعي فلن تكون هناك استجابة، وهذا ليس كافيا بل هو محتاج إلى مَزيد شروط لتحقيق الحل الناجع. والدليل على وجود وعي هو هذه الاستجابات لروح التغيير، ولكنها تبقى استجابات غير متطابقة مع الأزمة لأنها لا ولن تفي بالغرض وذلك لأسباب، نجملها في أن الأزمة لم يتم فهمها واستيعابها بالشكل المطلوب، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فما دام لم يتم فهم المشكلة وإدراك كنهها وسبر أغوارها فأي حل سيبقى قاصرا عن كونه حلا كفيلا لهاته الأزمة.

ليس من العسير أن نهتدي إلى سر العقم فنصلحه. ففي نهاية المطاف لكل أزمة حل كما يقال. ولكن الجدل الواقع بين التحدي والتطبيقات، بين المشكل والاستجابة، بين الفكر والواقع، فهذا هو أصل المشكل وعينه، وقد يحول نوعية الأزمة وشكلها. فالفكر إن لم يكن معريا للواقع كاشفا له وانعكاسا له، فإنه لا يستطيع أن يفي بالمطلوب ولا يمكن أن نصفه بكونه حلا.

إن لم يكن الفكر يقدم البديل معتمدا على دراسة الواقع ومستقرئاً له ومنطلقا من قوى التغيير الكامنة فيه فهو حل قاصر أغفل شروط النجاح. إذ لكي يَنْصَلح الإصلاح لا بد من اختيارات محددة لا تتناقض مع ما توارثته الأمة جيلا بعد جيل، ومواكباً للعصر ولما اكتشفته الإنسانية من بدائل وحلول جديدة، وإنه لمن غير المعقول أن نَدعَ ما أنتجه الجدود من مناهج – التي صلحت بها الأمة لقرون عديدة – لنظريات تغريبية لا تطابق ما نعيشه من أزمات. كَمن يريد بَذْرَ نبات الصحراء بمكان يكثر فيه الماء أو نبات لا يعيش إلا بماء في مكان لا قطر به ولا ماء، فهذا لا يصلح هنالك والآخر لا يعيش هنا.

الأزمة التي يتخبط فيها واقع التعليم اليوم ليست أزمة تعزى إلى تراكم التجارب، بقدر ما هي تعزى إلى عشوائية هذه التجارب، والذي ينم عن مصالح ضيقة وذاتية أحيانا
الأزمة التي يتخبط فيها واقع التعليم اليوم ليست أزمة تعزى إلى تراكم التجارب، بقدر ما هي تعزى إلى عشوائية هذه التجارب، والذي ينم عن مصالح ضيقة وذاتية أحيانا
 

ونحن ما أوتينا إلا من إقصاء ما انتهجته الأمة، ولست أبالغ حين أَرُد الأزمة إلى الحيد عن الأصل كما أني لا أعني بذلك إقصاء ما عند الأمم الأخرى من حسنات. وبالتالي فالمنهج الذي يكون كفيلا هو الاعتماد على البذور الكامنة في تراثنا ثم بعد ذلك لنتقصى ما عند الأمم الأخرى فنكمل به نهضتنا. الداخل قبل اللجوء إلى الخارج وليس العكس؛ أي أن الإصلاح يعتمد على الداخل، ولا يستجلب كنظريات جاهزة من الخارج، ويتم تطبيقها على واقع مغاير لا يستجيب لتلك الشروط التي أنتجت تلك النظريات.

فلكل واقع فكره ولكل واقع أزماته ومشاكله، والحلول كامنة في المشاكل التي يعيشها وليس خارجها. وهذا ليس بعيب ولا منقصة فالإصلاح هو حسنة بين سيئتين: الانغلاق المؤدي إلى الموت لا يجوز ولا يقول به عاقل، كما أن الانفتاح المطلق المؤدي إلى التفسخ والانسلاخ وقتل الهوية غير جائز، والجائز هو الانتقاء ومحاولة المزاوجة بين الرأيين معا، مع إعطاء الأسبقية للحلول المستقاة من المشاكل نفسها وإمكانية تدعيمها بما يقويها من خارجها.

إن الأزمة التي يتخبط فيها واقع التعليم اليوم ليست أزمة تعزى إلى تراكم التجارب، بقدر ما هي تعزى إلى عشوائية هذه التجارب، والذي ينم عن مصالح ضيقة وذاتية أحيانا. والذي نخشى ما نخشاه ليس طول أمد الأزمة وتأخر حلها، ولكن الذي نخشاه هو استحالتها من أزمة كان يمكن استدراكها وإيجاد الحلول لها، إلى أزمة من النوع المسدود الذي لا يصلح معه أي منهج، فتصبح أزمة فكر وواقع. أزمة ذات خلايا سرطانية، استشرت في التعليم لما انتهت من الحكامة. فهي أزمة متشعبة مركبة وليست من النوع البسيط، فمن سمات المشتغل بإيجاد الحل لها: التريث، والأناة، والاستقراء الجيد، والشمولية؛ حتى يكون هناك إصلاح حقيقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.