ثم إن أباهما خرج للبحث عنهما فكان كلما مر به شبح لم يتبينه قال أسعد أم سعيد، فمضى مثلا للشيء غير الواضح، فلما بلغ أبوهما الحرم وجد معتمرا يطوف بالبيت وعليه ثياب ابنه سعيد فسأله فقص عليه قصته وهو يجهل أنه والد سعيد، فما كان من هذا الأخير إلا أن استل سيفه وقتله، فلما سئل أقتل في البيت الحرام! قال سبق السيف العذل.
فكان مثلا ثالثا لقصة تحضرنا ونحن نتابع قصة احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في المملكة العربية السعودية، وهي وضعية يصح عليها المثل من أوجهه الثلاثة فلم تتضح خفاياها برغم كل التخمينات، وهو ما يجعل اللبنانين يتساءلون أسعد أم سعيد ذلك الذي أطل عليهم باستقالة من مكان غير معتاد خارج وطنه! وعلى خلاف الأعراف والتقاليد السياسية، ثم أطل عليهم مرة أخرى في حوار تلفزيوني من بلاد الحرمين أيضا ليقول إنه سيعود إلى لبنان ولم يحدد موعد عودته إذ لم يؤذن له بعد من محتجزيه الذين لم يأبهوا لما فعلوه برئيس حكومة لدولة شقيقة لهم، وحق للبنانيين وقد شبه لهم رئيس حكومتهم دون أن يصلب فلم يعرفوه ولم يكشف عن نفسه! حق لهم أن يتساءلوا أسعد أم سعيد!
ويبدو أن سعدا السعودي غلب على سعد اللبناني وحضرته خطبة ابن أبيه البتراء التي أقسم فيها بالله ليأخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه؛ فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم.
الكلام لزياد وقد استعاره محمد وكلاهما ابن أبيه لكنهما يختلفان في المنجز والكاريزما، وما همنا منهما إلا أن سعدا اللبناني وقد غلب عليه سعد السعودي، سلك طريقا للنجاة أقصر من طريق الحرير، فخسر اللقب مرتين ولم يربح الثالثة، إذ حجزه ابن أبيه المتعجل لملك لم ينضج له بعد ولعله لن يستقر له إذ تتالى عليه الهزائم في كل بقعة يحل بها من أرض العالمين.
لكن سعدا لا يقرأ صحف الأخبار ولا يسمع الأنباء التي تأتي من هنا وهناك عن ابن أبيه العجول، فقد غلب عليه خوف أن يأخذه بذنب الولي الفقيه، فعجل يعتذر فأبطأ عليه العجول ابن أبيه وتركه يرقب إلى حين، وقديماً قالت العرب السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، وسعد لا يريد أن يكون شقيا فهو فيلسوف السعادة الأعظم في تاريخ الحكومات في العالم، وقد رأى قوافل الأمراء من أصحاب البلد التي ينتمي إليها بالأوراق الثبوتية فقط يغادرهم ابن أبيه في المحابس والسجون ويسلبهم أموالهم متشبها بالملك سليمان في حبسه للجنن يعملون له دون أن يدركوا موته.
ضربت العرب أمثالا كثيرة للأحمق والجاهل، وقالت فيما تناقلته كتب أخبار الحمقى والمغفلين يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه |
كان ابن أبيه في بلاد الحرمين كالملك سليمان دون نبوءة وقد أكلت الأَرَضَة منسأته منذ استعجل الملك قبل أوانه، وقديما قال الفقهاء من استعجل الشيء عوقب بحرمانه، لكنه ما زال غير منتبه لهذه السنة وقد عزم على ترك كل السنن، وسعد اللبناني لم ينتبه هو أيضا لما يجري، فالخائف لا يحمل عقله معه، ربما لم ننصف الرجل وقد اتهمناه بالنجاة بنفسه دون شعبه، فما يملك رجل مثله بل وشعبه المرتهن لاتفاق الطائف أمام أهل الطائف أنفسهم، وقد أغروا به سفاءهم يرمونه بالحجر ويهددونه بالويل والثبور، ولا عدّاس يعترض طريقهم ويقدم لهم عنب الطائف يخفف عنهم بعض تعب الطريق ربما!
لكن سواء نجا سعد أم لم ينج، فقد سبق السيف العذل، وفعل أهل الحرمين ما فعلوا، وانتهكوا حرمة البلد الحرام مثلما انتهكوا الأشهر الحرم من قبل واعتقلوا المحرمين، فهان عليهم أمر ابنهم اللبناني وقد جاءهم يسعى بنفسه ولم يحرك ساكنا ولا أثار ضجيجا.
سبق السيف العذل، وجه المثل الثالث الذي يقوله سعد السعودي لسعد اللبناني في خلوته يتحلل بالمناجاة من وزر ما ابتدعه في عالم السياسة والديبلوماسية، يقول له إني أخاف عليكم غضب ابن أبيه ولا فكاك لكم من حمل الطائف ولستم بمنأى عن الحمم التي قد تأتي من عدو يتربص بكم يجد في ابن أبيه عونا عليكم.. في خلوته يردد سعد لسعد أعذاره لكن يصبح فيحدث الناس عن كرم ابن أبيه كأنه يرمي إلينا نحن الذين نتابع ولا نملك من الأمر شيئا أن نعذره ونقر بأن السيف قد سبق العذل، واللوم بعد القضاء بدعة كما يقول أهلنا في تونس، ونحن والتونسيون نسل بعضنا من بعض، فعليسة ابنتنا الفينيقية هي التي أسست بلادهم، فلماذا لا نستلف منهم بعض ما يتعللون به ونترك اللوم حتى لا نقع في البدعة فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لكن ابن أبيه لم يعد يؤمن بالبدعة ولم يعد من أهل السنة والجماعة، فقد عقد العزم على أن يكون علمانيا وما أدراك ما علماني في بلد الحرمين، العلماني في بلاد الحرمين كما يراه ابن أبيه هو من يؤمن بالديمقراطية التي لا تعارض ولي الأمر ويؤمن بالشورى غير الملزمة ويضيق بالرأي المخالف، فما يجوز لأهل الحرمين أن يعصوا أولياء الأمور، لذلك بدأ علمانيته بأن أطلق للنساء عنان المقود فهلل لرأيه العلماء ممن أفتوا من قبل بالحرمة عملا منهم بمقولة سعد اللبناني انج سعدا فقد هلك سعيد.
لكن العرب ممن سبقت ابن أبيه إلى أرض الحرمين لم تكتف بأمثال سعد الثلاثة فقد ضربت أمثالا كثيرة للأحمق والجاهل، وقالت فيما تناقلته كتب أخبار الحمقى والمغفلين يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه، ثم إنها استدركت على سعد الناجي بعد أن قال ما قال وقد ظن أنه ناج منهما، أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وقد كان سعيد ثور العرب الأبيض قتله عدوه حين رآه يستبق أخاه على ما يظنه مكرمة ينفرد بها دون أخيه وقد فاته أن العدو يتربص بكليهما وأن المرء بأخيه كما تقول العرب.. آه كم تقول العرب ولا تتعظ!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.