عادة سيئة اكتسبتها على مدار السنين الأخيرة وهي أن أمسك هاتفي عند استيقاظي وأبدأ بتصفح الإنترنت علّني أستعيد بعضاً من نشاطي تدريجياً. لم يكن هنالك شيء جديد أو خبرٌ يستحق الوقوف عنده لكن ما لفت نظري هو صورة لصديقة من صديقاتي كانت مختلفةً بعض الشيء عن صورها السابقة، ظننت بأن النوم ما زال يلقي بظلاله على ذاكرتي إلا أن ملامح الوجه ذاتها والاسم ذاته ولكن ببساطة لم تكن مرتدية الحجاب الذي طالما اعتدت على رؤيتها ترتديه لسنوات طويلة. توقفت للحظة وأردت أن أترك تعليقاً على صورتها لكنني ترددت أثناء قرائتي للتعليقات، بعض منهم قد هنأها والبعض الآخر شتمها وقسم دعا لها بالهداية فقد ضلت عن الطريق الصحيح واتبعت طريق الضلال على حد قولهم فاكتفيت آنذاك بالصمت لأنني أدركت بأنها تملك ما يكفي من الكلمات التي قد ترد على بعضها وقد تتجاهل بعضها الآخر. لم يكن الأمر مجرد حادثة حصلت لمرة واحدة فقد تكرر الأمر ضمن معارفي في الآونة الأخيرة ولا أقصد التعميم، الأمر الذي جعلني أفكر ما سبب ازدياد هذه الظاهرة ولماذا أصبحنا نراها بتكرار أكبر، أهي حرية حقا؟ أم جرأة شديدة؟ هل أصبح الناس أكثر انشغالاً بتأمين احتياجاتهم اليومية وأقل اهتماماً بالأمور الدينية بسبب الضغوطات المعيشية؟ هل بات تفكير بعض الأشخاص منصباً أكثر على الناحية العلمية واحتل هذا الجانب حيزاً كبيرا من تفكيرهم وأهملوا الجانب الديني؟ أهو حقاً أمر مسيس، أم ماذا؟
بدأت أعود بذاكرتي إلى أقاصيص كان يرويها لنا أهلنا عن سوريا في الماضي، حيث أنه كان من الطبيعي جداً أن تجد العديد بل والكثير من الفتيات المسلمات غير المحجبات في الستينات ولكن في مطلع السبعينات ونتيجة للانعزال السياسي ومحاربة أي نزعة فكرية أو سياسية أصبح الدين هو الملجأ الوحيد للناس والمتنفس الحقيقي لهم من الضغط الذي كانوا يعايشونه، وجاءت أيضاً محاربة رفعت الأسد للحجاب في عام 1981 حيث قام بنشر مجموعة من النساء يدعين المظليات مدعومات بقوى سرايا الدفاع في الشوارع الدمشقية وقاموا آنذاك بإجبار النساء على خلع حجابهن عنوة تحت تأثير العنف والتهديد ومنع الحجاب في الأماكن العامة مما اضطر الرئيس السوري حافظ الأسد وقتها للاعتذار للشعب السوري عما بدى من شقيقه، كل هذه الظروف والأحداث تضافرت لتخلق ردة فعل عكسية عند الشعب وازدادت نسبة الحجاب بشكل كبير بعضهم لاقتناعهم عقائدياً والبعض الآخر كمحاولة لإثبات الهوية الدينية التي شعروا بأنهم كانو يحاربون بها، وأصبحت غالبية النساء المسلمات يرتدين الحجاب.
لكن الأمر الذي يستدعي الوقوف للحظة هو الظاهرة العكسية التي بدأت بالانتشار في السنتين الماضيتين سواء كانت من الفتيات داخل سوريا أو ممن هاجرن خارج البلاد وازدات قناعتي بأن أفضل طريقة لإقناع شخص بفعل ما تريد هو محاولة إجباره على القيام بالنقيض، وأكبر مثال على هذا الموضوع هو ظاهرة خلع الحجاب فنتيجة لازدياد الحركات الإسلامية أو المتأسلمة السياسية وفشلها معظم الوقت بتحقيق تطلعات الشعب بل ومحاولتهم فرض شعائرهم بالإجبار كما حدث في الغوطة أو في الرقة أو أي منطقة أخرى تولد لدا بعض النساء شعور بالنفور وإحساس كبير بالتبعية جعلهن يضربن عرض الحائط شعارات ومعتقدات عديدة تربين عليها لسنين طويلة ولربما ساهمت الهجرة الكبيرة إلى الخارج بهذا الأمر حيث تخلصت النساء من هيمنة المجتمع الذكوري وبتن أكثر قدرة على رفض ما أجبرن عليه إن كان قد فرض عليهن، أو أن تأثرهن بالثقافات والعلوم الجديدة وانخراطهن بالمجتمعات الغربية بشكل أكبر وتهميش الجوانب العقائدية ولّد شعوراً بفقدانهن المعنى الروحي للحجاب وأصبحن ينظرن إليه كعادة أو تقليد لا ضير في التخلص منها.
قابلت صديقتي ذاتها بعد فترة وجيزة وأخبرتني أمراً أثار استغرابي قالت لي أتعرف ما أود سماعه حقا من الناس؟ ما أريده هو "اللا شيء"، لست أرغب بعبارات التهنئة فأنا لم أفعل شيئا أستحق التهنئة عليه في نهاية المطاف فنزعي للحجاب لا يعني تخلصي من العبودية كما يدعي البعض ولا يعني بأنني قد نضجت فكريا وأصبحت قادرة على التمييز بين ما هو صحيح حقاً وبين ماهو عرف سائد فبنظري هنالك أمور أهم قد تثبت العكس أو تنفيه، ولا أود أيضا أن أسمع عبارات اللوم أو دعوات الهداية فأنا لا أجد بأني قد ضللت الطريق وأن الصواب بالنسبة لهم هو الصواب المطلق، هو ليس بإنجاز جيد وليس بشيء خاطئ حتى أو أمر أستحق اللوم عليه، إنه أمر شخصي بالمطلق و ليس بحدث جلل، أمر ما قد يبدو صوابا بالنسبة لي ومن ثم أكتشف بأنه لم يعد كذلك، بالمختصر لم أؤذ أحداً بفعلتي هذه ولم أنفع أحداً أيضا إنه أمر محصور بنطاقي وعالمي الصغير ولا يحق لأي شخص أن يتجاوز هذه الدائرة سلباً كانت أم إيجاباً.
أرى بأن المهم هو تحمله المرأة من أفكار وتطلعات بما يجعلها محملة بالقناعة والرضى عما هي عليه الآن وعما ستكونه يوماً |
أردفت قائلة كنت في سن الخامسة عشر من عمري عندما ارتديت الحجاب وطبعا بالعرف السائد لم يجبرن أحد على ذلك ولكن زينو لي بأن الأخلاق تنحصر فقط على الفتيات المحجبات وبأن العذاب أليم في الآخرة إن لم أكن واحدة منهن، كان المفهوم بالنسبة لي منحصراً بأن أكون فتاة صالحة وأن أفعل كما فعلت معظم قريناتي الأمر كان بالنسبة لي تقليداً ومحاولة لإرضاء أهلي والمجتمع أكثر من كونه يحمل طابعاً دينيا، وعندما قررت ارتداءه سألني والدي إن كنت متأكدة من قراري فأنا ناضجة الآن ويجب أن أكون مسؤولة عن قراراتي فلم أعد طفلة صغيرة وأجبته بالإيجاب، وكانت المفارقة العجيبة بعد عدة أيام عندما أخبرته بأنني أرغب بأمر ما فرفض رفضا قاطعاً وأتى جوابه بأنني لم أمتلك بعد الوعي الكافي لأعي ما هو الأنسب بالنسبة لي، وإلى يومي هذا لم أفهم الازدواجية التي عاملني بها والدي.
ودعتها ورأسي محمل بالأفكار ولكنها كانت جميعا تتقاطع بنقطة ما، وهي كلمة أصبحت مستهلكة عند البعض لكنني ما زلت أراها تحتفظ برونقها ألا وهي "الحرية"، ولا تعني فقط بأن نصمت عما نراه بل أن نكون أيضا أكثر انفتاحاً وأكثر قابلية لتقبل قرار الآخرين طالما لم يؤثر علينا سلبا أم إيجابا ، للجميع الحق بفعل ما يريد فمن يرد ارتداء الحجاب فليفعل ومن يرد التخلي عنه فليفعل هو أمر ليس لنا شأن به لا من بعيد أو من قريب، لسنا بأوصياء على البشرية ولا بمخلصين أو منقذين إننا ببساطة شديدة أشخاص مختلفون شكلاً ومضموناً وعلينا تقبل اختلافاتنا، تقيمنا للمرأة يجب أن يكون بعيداً كل البعد عن هذا، فما يهم بالجزء العلوي من جسدها هو رأسها وما بداخله وليس ما عليه فلا وجود الحجاب سيجعلها أكثر تميزاً ولا غيابه أيضاً. ما يثرينا في النهاية هو أخلاقنا وعلمنا وظاهر الأمور لا تعكس حقيقتها، وفي النهاية إنسانيتنا تكمن بما نفعل لا بما نبدو عليه.
دوري كرجل علماني قابلت وسأقابل نساء من مختلف الأطياف أن أحترم كل واحدة منهن، يتوجب علي أن أدعم كل فتاة ترغب بارتدائها للحجاب إن كانت مقتنعة بذلك وتريده حقاً إن كانت تشعر بأن شخصيتها، معتقداتها ستكمل به وبأنها ستشعر بحرية وبسعادة أكبر بوجوده، وأيضا سأدعم الطرف الآخر إن كانت ترى بأن الحجاب لم يعد جزءاً منها أو من قناعاتها، ليس دوري أن أغير قناعات البعض ولا أن أهنئ إحداهن على قرارها فكلاهما صائب بالنسبة لي إن حقق الرضا والقناعة الذاتية لأي طرف، فقط كوني أنت بما تحملينه من أفكار وتطلعات بما يجعلك محملة بالقناعة والرضى عما أنت عليه الآن وعما ستكونينه يوماً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.