لا تزال توجيهات الرئيس الباكستاني الراحل الجنرال ضياء الحق لمدير استخباراته العسكرية حينها الجنرال أختر عبد الرحمن ترنّ في أذني منذ بواكير الجهاد الأفغاني عام 1979، يوم قال له: "اغلي الماء بهدوء، ولا تتعجل غليانه"، فكان آخذاً بالقاعدة الأصولية المعروفة من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فأتى أختر خير مطبق ومنفذ لوصية ضياء الحق، وسار بالعمل العسكري الجهادي في أفغانستان بوتائر متصاعدة ولكن بهدوء، متفهماً للظروف الداخلية والإقليمية والدولية، بعد أن كان عبد الرحمن على ما يبدو مستعجلاً في حرق مراحل دعماً للمجاهدين الأفغان ضد السوفييت بأفغانستان.
الرئيس الراحل ضياء الحق الداهية بدهاليز السياسة الاقليمية والدولية، والعارف بما يبغيه في أفغانستان وباكستان، يريد الأمر أن يأخذ وقته لإنهاك الخصم، وجرّ العالم لدعم انقلابه العسكري المفتقر إلى الشرعية، كونه انقلب على حكم ديمقراطي منتخب، فضلاً عن حاجته لأمور أخرى سأتحدث عنها لاحقاً، وبالمناسبة فلعله تتهيأ الفرصة للحديث عن تلك الشخصية المميزة التي لم توفّ حقها حتى الآن على الرغم من مرور ثلاثة عقود تقريباً على رحيلها أو ترحيلها، بله الجهود الضخمة التي بُذلت لتشويهها.
أدرك ضياء الحق منذ البداية أن الاحتلالات تستغرق بين 8- 10 سنوات بحسب الخبراء الاستراتيجيين لترحل في الغالب عن الدول المحتلة، فسعى إلى تهيئة الأرضية والظروف لرحيل الاحتلال، ومثل هذه الظروف لن تكون عسكرية فقط، وإنما لا بد من استنزاف الخصم عسكرياً واقتصادياً وبشرياً وحتى سمعة بضرب علاقاته الدولية، وهو ما تحقق له، حيث تمكن ضياء الحق من حصر بوابة الدعم للجهاد والمجاهدين الأفغان من خلال البوابة الباكستانية، مستغلاً انشغال الثورة الإيرانية الوليدة بحربها في العراق، وكذلك بحروبها في الداخل، بالإضافة إلى عدائها العلني للغرب، وكلها ظروف مكنته بالاستفراد بالتعامل والتعاطي مع الغرب بما يتعلق بأفغانستان والجهاد.
خلال هذه الفترة كانت الهند العدوة التقليدية لباكستان يسارية التوجه وبالتالي قريبة من الاتحاد السوفياتي فكان من الصعب أن تتخذ مواقف معادية لموسكو في احتلاله أفغانستان، وهو ما أضاف إلى رصيده في احتكار تعاقده القضية الأفغانية مع الغرب، فانصبت عليه كل أنواع وأشكال الدعم، فكان أولها الاعتراف بشرعية انقلابه العسكري الذي أتى عام 1977 وأعدم لاحقاً رئيس وزراء منتخب هو ذو الفقار علي بوتو، ومع اكتساب شرعية لانقلابه تمكن ضياء الحق من الحصول على الدعم المالي الضخم من أمريكا لتمويل مشروعه النووي، مستغلاً صمت الغرب وحاجته له في قتال السوفييت، أو ما أطلق عليه الرئيس ريغان لاحقاً بإمبراطورية الشر.

وحين عرض الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في بداية تعاون البلدين 400 مليون دولار كمساعدة دفاعية لباكستان على مدى عامين مقبلين، رفضها ضياء الحق ووصفها بأنها فستق، في إشارة إلى كون كارتر يملك مزارع الفستق، وبالفعل حصل ضياء الحق لاحقاً على مساعدات مالية مضاعفة إذ عن العام الواحد حصل على نصف مليار دولار، إذ جعل من الفستق كاجو.
مكّنت هذه الأموال وهذه العلاقة وإطالة أمد القتال في أفغانستان إنهاك الخصم، وتقوية العلاقات مع الغرب، ومنحته الوقت الكافي لبناء سلاح نووي يردع العدوة التقليدية الهند، وسط تغاضي أو صمت أمريكيين، ما كان له أن يحدث لو لم تكن هناك الحرب الأفغانية، هذا بالإضافة إلى بناء علاقات قوية مع حلفائه الأفغان وفرز القمح من الزوان، حتى أنشأ علاقات استراتيجية مع جماعة الحزب الإسلامي الأفغاني بزعامة قلب الدين حكمتيار فكان أول ضحية من ضحايا رحيل ضياء الحق في آب من عام 1988.
نجد في ثورة الشام أن أكثر ما تحتاجه هو إبقاء الماء ساخناً ضد الاحتلالين الروسي والإيراني، في ظل كذبهم بكل ما تعهدوا به |
لزعيم المهدية السودانية الصادق المهدي عبارة أقرب ما تكون إلى ضياء الحق لكن في العمل السياسي وليس العسكري والأمني، مفادها أبق الوضع ساخناً، بحيث يظل الضغط السياسي والشعبي والنفسي على الخصم السياسي، وهي مدرسة سياسية وحزبية يعرفها قادة الأحزاب ليظل عصب الحزب مشدوداً، ويظل الخصم الحزبي تحت الضغط.
نأتي اليوم إلى الثورة الشامية، فنجد أكثر ما تحتاجه هو إبقاء الماء ساخناً ضد الاحتلالين الروسي والإيراني، في ظل كذبهم بكل ما تعهدوا به، فبعد ساعات من تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الأمريكي دونالد ترمب بأن الحل في سوريا سياسي وليس عسكرياً، رأينا مجزرة يرتكبها طيران الاحتلال الروسي في الأتارب بريف حلب مستهدفاً سوقاً مكتظاً بأهل البلدة والبلدات المجاورة مما أسفر عن مقتل أكثر من 100شخص وإصابة أكثر من 150 آخرين بجروح.
أكثر ما يُقلق الاحتلال الروسي والإيراني اليوم هو إبقاء الماء ساخناً في الشام، ومعه إبقاء حرب العصابات المستهدفة لخطوط الإمداد وهو ما يشكل ضغطاً على هذه القوات، ويستنزفها بشرياً واقتصادياً ويزيد من تعاطف الحاضنة الشعبية، كون الاحتلال وعملاؤه لن يقصفوا المدنيين بحجة الرد على معارك المعارضة المسلحة وقد رأينا تأثير ذلك على مقتل الروس في عدة مناطق سورية، والأهم من ذلك يُبرز ويعزز في أعين الغرب والشرق أن ثمة احتلالا مرفوضا، بل ويقاوَم في سوريا وهذا من أهم ما تحتاجه الثورة السورية، فضلاً عن التأكيد أن تصويب السلاح إلى الاحتلال سيشغل الثوار بالعدو الصائل عن خلافات بعضهم بعضاً، والفجوة التي تزداد بين روسيا وأمريكا في سوريا لا بد من استثمارها من خلال شن حرب عصابات طويلة الأمد فهي حروب الفقراء، وهو ما يعوض عن وقف الدعم عن الثورة الشامية.