الإنسانُ كِيانٌ مُتداخلُ المهاراتِ والرّغباتِ والرّؤى والطّموح والأبعادِ والْميولِ وكُلّها تَنهلُ مِنْ خِلال التّجربةِ والخطأ ومِنْ خلالِ الانْطلاق والاشتباكِ مع الطّبيعةِ |
ولا بُدّ مِنْ مُلاحظةٍ مركزيةٍ بأنّك عند أوّل يوم تَدخلُ فيه أيَّ سِجنٍ على سَطح الْكوكَبِ فإنّ أوّلَ شُعورٍ يَجْعلك تَعيشهُ أن تَكون عَدماً؛ أي أن تَكون رَقماً، فالسّجينُ لا اسم يُميّزُهُ ولا هُويةَ واضحةً يَتَفرّدُ بها بينَ أَقْرانِهِ ولا طُموحَ لَهُ يَتناسَبُ مع قُدُراتِهِ بَلْ طُموحاً يَتَناسَبُ مع الْقائمين على النّظم التّعليميةِ ولا قيمةً فعليةً؛ بل الأمرُ بِرمّتِهِ عبارةً عن رَقَمٍ ، وهكذا فأنتَ مجرّد رقم فالّذي يُحصّلُ على 90% فهو مُتميزٌ في كلّ شيءٍ، والّذي يُحصّلُ 70% فهو مُتوسّطُ القدرات والذي لم تُسْعِفُهُ أَدواتُهُ ويحصّلَ أقلَ مِنْ 60% فهو أقل من أن يَكونَ لَهُ طُموحٌ يُزاحِمُ بِهِ مَناكِبَ الأَقرانِ في الْمُسْتَقبَلِ.
وهنا تَكْمُنُ خُطورةُ الأَمرِ أن تُلغى كلّ مَهاراتِكَ وكِفاياتِكَ العلميّةِ والأدبيّةِ والرّياضيّةِ والفنّيّةِ وتُختَصرَ في أن تَكونَ رَقَمَاً لا يُقدّمُ ولا يُؤخّر إن لم يكن ضمن مقاييسهم؛ أي الذين وضعوا هذه المقاييس الْتي تَحمِلُ عَنْهم إصْرَ النّظرِ في الْقدراتِ والْمهاراتِ للأفرادِ حتى لَو كانَ التّحصيلُ الأَكاديميّ مُتواضعاً فإنّ الكِفاياتِ الأُخرى كَفيلةً أن تسدَّ مَسدّ التّدني الأكاديمي، بل وقادرة على أنّ تَجعل صاحِبَها يُزاحِمُ الْمُتفوقينَ أكاديميّاً بالمناكبِ في مَناحي الْحياةِ.
فالطالبُ في الْمدارسِ يَنْهَدُ اثني عَشَرَ سَنةً لِخمسةِ أيامٍ في الأسبوعِ بواقع سِتِّ ساعاتٍ يَومياً لِكي يُحْكَمَ عَليْهِ مِنْ خِلالِ امتحانٍ لِساعَتينِ حَولَ بَعضِ الْمعارفِ الْواقعةِ تَحْتَ مِزاجِ مُتخصصٍ في حَقْلٍ مِنْ حُقولِ الْمعرفةِ لِيُحددَ لَه مستقبَله الْمهني؟؟
الإنسانُ كِيانٌ مُتداخلُ المهاراتِ والرّغباتِ والرّؤى والطّموح والأبعادِ والْميولِ وكُلّها تَنهلُ مِنْ خِلال التّجربةِ والخطأ ومِنْ خلالِ الانْطلاق والاشتباكِ مع الطّبيعةِ والْكون ومَوجوداتِهِ، ويتم هذا بالتركيزِ على الإنسان في داخلنا ذاكَ الذي يأنسُ بالآخرينَ ويأنسُ الآخرون بِهِ مُتّكئِينَ في طَريقنا على أن يتقصّى الطّالبُ الْمعرفة ويَنظرُ في المعلومة، ويَسْبِرَ غَورَها حَتى يُحصّلها لا أن تنزلَ عَليهِ مُعلّبةً، وعلى حد تَعبير باولو فرايري – وهو يعلّم المقهورين في إحدى قرى البرازيل – أن ننتقل بالطّلابِ من التّعليم البنكي الْقائِم على إيداعِ الْمعلوماتِ في رأْسِ الطّالبِ في الْحصةِ، و ونَسترجِعُها مِنه عِندَ الامْتِحانِ، فَنطوي صَفحةَ الْمعلومةِ، ونَختمُ عليها بالْعلامة التي حصّلته لا التي حصّلها إلى التّعليم الْحواري الذي يَبني الْعقل ويُؤسس للمعرفةِ على أرضٍ صَلْدَةٍ.

وسيبقى التّعليمُ يُراوحِ مَكانه ومَكانَتَهُ حتى يَنتَقِلَ في دَورانه مِنْ بَينِ دِفتي الْكِتاب وحُدودِ معرفةِ الْمُعلّمِ إلى أن يَنطلقَ على فَضاءاتِ "وإنا لَموسعون" فَيتحركُ الطّالبُ في فَضاءاتها لا يكون فيها غَريبَ الْوجهِ واليدِ واللسانِ ، وهذا كلَّه لَنْ يَكونَ إلا مِنْ خِلالِ مَجموعةِ نُقاطٍ تَحتاجُ للوقتِ والهمةِ والإرادةِ لِنقْلِها مِنْ الْكلام إلى الفعل:
1. التعديلُ للأنظمةِ والْقَوانينِ الْتي تَتَعامَلُ مع الطّالبِ على أنّهُ آلةٌ يَجِبُ أن تؤدي مجموعةَ وظائفَ ضِمنَ مَعاييرَ صارمةٍ لا تُراعي الْفروقَ الفرديةَ والذّكاءاتِ الْمُتعددةِ.
2. البَدءُ بتوفيرِ جوٍّ من البحثِ والْمناقشةِ مُنذُ الْمراحلِ الدّراسيةِ الأولى للطّالبِ -أي من مرحلةِ الرّوضةِ-
3. التدريبُ المستمرُ للأهالي مِنْ خِلالِ الْخُبراءِ والْمُخْتَصينَ على ضَرورةِ التّعاملِ مع الأبناءِ بإعدادهم للمستقبلِ لا للماضي.
4. إمدادُ المعلمينَ في الْمدارسِ بِورشِ عملٍ مُستمرةٍ تتمُ مُتابعتُها من خِلال التّقييم الْميداني الْمستمرِ وجَعْلِ مَساقاتٍ تَهتمُ بِعلمِ النّفسِ التّطوريّ مُرافقاً لِكلّ الْمراحلِ الْمدرسيةِ.
5. التركيزُ على المهاراتِ الشّخصيةِ في السّنواتِ السّبعِ الأولى مِنْ عُمرِ الطّالبِ أكثرَ مِنْ حَشْوِ أدمغتهم بالمعلوماتِ.
6. التركيزُ على الاشتباكِ الْمباشرِ مع الطّبيعةِ مِنْ أجلِ الحصولِ على الْمعرفةِ وعدم الاقتصارِعلى الْجلوسِ لساعاتٍ طويلةٍ داخلَ الْغرفةِ الصّفيةِ.
وحُشاشةُ القول تتلخصُ في أنّ التعليمَ إن كانَ مُتكئاً على جَعلِ الطّالبِ مَحْضَ "رقم" يغرسُ هذا الرقمُ في أفرادهِ مُخدر "من علّمني حرفاً كنت له عبداً" فإنه سيخرّج لنا عَبيداً تَعشقُ صوت خَشْخَشَةِ السّلاسلِ في أَيديهم ولا تَطربُ لِصريرِ الأَقلامِ التي تُسوّدُ وَجْهَ الصّفحاتِ لِتبيّضَ وَجْهَ الْمستقبلِ.