شعار قسم مدونات

التطبيع مع السجن

سجن2
كيف يصبح السجن جزءًا طبيعيّا في الحياة؟ هل هذا ممكن؟ كيف يصبح "السجن" مكانًا اعتياديًّا عليكِ زيارته أسبوعيًّا؟ ماذا بعد عامين من الحبس الاحتياطي؟ كيف تبدو الحياة لمن ارتبط مصيرها بمصير محبوس على سبيل الاحتياط خلال عامين؟

في الحبس الاحتياطي، يتجدد احتمال إخلاء السبيل كل خمسة وأربعين يوما، ويظلّ التعامل على هذا النّحو: لو جدّد الحبس، فسيكون كذا وكذا، ولو أُخلي السبيل سيكون كذا وكذا.. يبدو اللايقين والاحتمالات المفتوحة دائمًا سيّدا المشهد، ولكن على رغم ذلك، عليكِ أن تُدخِلي على هذا اللايقين قدرًا من الانتظام لقطع الطريق على حالة "الانتظار" وما تسبّبه من قلق دائم.

يصبح تيار الحياة الجارف فوق القدرة على الإيقاف، تتعاملين مع المشكلات بمفردك، ومع مشكلات سجينك بمفردك كذلك. عليكِ أن تستقلّي عاطفيًّا ونفسيًّا، لأن الاستقلال النّفسي والعاطفي أوّل أساسيّات هذا التطبيع. عليكِ أن تتعايشي مع كل الإحباطات المتعلقة بآمالك وخططك قبل السجن، والتي أوقفها السجن. إذا زارك الاكتئاب لكثرة الضغوط وتكاثر الأعباء مع قلّة الإمكانات وكثرة الإحباطات، فعليك أن تتعاملي معه ضيفًا ثقيلاً لا يمكنك تخصيص وقت له. الحياة ستسير وهذا الضيف الثقيل برفقتك.

الاستقلال المالي هو ثاني أساسيّات التطبيع مع السجن، فسيصبح عليكِ تحمّل أعباء الحياة العادية، وأعباء ماليّة إضافيّة كذلك. اللايقين هو الحالة التي يجب التعامل معها كذلك باعتبارها عادية، تتحملين شظف العيش باعتباره حالة عادية، وتتحملين أعباء مالية ما كانت لتفاجئك لو استشرفت أنّ محنة قريبة ستداهمكِ.

تستمر الحياة بمشكلاتها وصعوباتها، بالأعمال، بالالتزامات، لكن تصبح الحياة الشخصية تحت وقف التنفيذ. أعلم أنّ لهذا نهاية، و نهاية قريبة، ولكن يصبح الحديث حول ما تفقدينه حتّى تأتي هذه النهاية
تستمر الحياة بمشكلاتها وصعوباتها، بالأعمال، بالالتزامات، لكن تصبح الحياة الشخصية تحت وقف التنفيذ. أعلم أنّ لهذا نهاية، و نهاية قريبة، ولكن يصبح الحديث حول ما تفقدينه حتّى تأتي هذه النهاية
 

محاولة إدخال قدر من الانتظام على عشوائية الحياة المفروضة أمرٌ عسير. "أجندة جوجل" هي رفيقتي في محاولة تنظيم الحياة الأسبوعية والشهرية والتعوّد على المستجدّات المفروضة. السجن والزيارة أصبحا من مفردات جدولي الأسبوعي. أنظر للجدول وأحدّد موعد الزيارة الأسبوعي المناسب، يستقرّ رأيي على يوم، كثيرًا ما يتغيّر، ولكن يساعدني جوجل على عمل "حدث متكرر" فأقول له: اجعل الزيارة يوم الاثنين من كل أسبوع من الساعة الثامنة صباحًا وحتّى الثالثة عصرًا، وهذا لمدة ستة أسابيع إلى موعد جلسة تجديد الحبس القادمة. أقول لجوجل كذلك: كرّر جلسة "النّظر في أمر الحبس" كل 45 يوم لمدّة عام، ثمّ زد نصف عام، ثمّ زد نصف عامٍ أخرى.

تصبح الخطط مرهونة بـ 45 يوما، عليكِ ضبط حياتك في خلال 45 يوما لأنّ الحياة قد تختلف بعدها. إذا اقترب موعد "جلسة النّظر في أمر الحبس" ينقسم أسبوعي قسمين: ما قبل الجلسة، وما بعد الجلسة. تغدو الاحتمالات مختلفة كذلك. لو جدّد الحبس، عليّ الاستعداد للزيارة بعد التجديد بيوم، لو أخلي السبيل، عليّ احتساب عشرة أيام هي فترة الإجراءات البيروقراطية لإخلاء السبيل.

هذا اللايقين ينعكس على الحياة الاجتماعية، يصبح أشق أمر عليّ هو الوعد بأي موعد أو الالتزام المسبق بموعد يأتي في خلال أسابيع أو شهور. أقول دائمًا لمن يودّ مقابلتي: لا أملك سوى يومي وربما يومين قادمين، أعيش يومًا بيوم ولا أملك أيامي بعد ذلك.

يغيّر السجن خريطة علاقاتكِ الاجتماعية كذلك، يبعتد عنكِ كثيرون، ويقترب كثيرون كذلك. يصبح الأقربون إليك هنّ رفيقات الزيارة، وهنّ العالقات في هذه المحنة، وهنّ من يملكن المثابرة لدوام التواصل. علاقات تنمو وأخرى تخبو بناء على "السجن" عليكِ أن تطبّعي كذلك علاقاتك. بعض النّاس يريدون التواصل والسؤال، لكن يريدون "خلق مسافة آمنة" بينكِ وبينهم، أو كذلك يتصورون. تصبحين ذات مقياس خطورة مرتفع بعض الشيء من منظور بعض الناس أو كذلك أوهموا أنفسهم.

لكلّ تفسيره لهذه "المسافة الآمنة" بعضهم يعتبر أنّ المسافة الآمنة هي لقاؤك خارج بيتك، وكأنّنا في القرن التاسع عشر مثلاً حين كانت المراقبة لا وسيلة لها سوى "مخبرين" عندما أقابل أناسًا من هذه الفئة أشعر وكأنّي داخل فيلم بلا مخرج. أضحك داخلي من هذا الموقف، ولا أملك رفاهية التوقف عنده أو التعليق عليه. آخرون يعتبرون أنّ المسافة الآمنة هي: ألا يمشي معك في الشارع، ويصاب بالاضطراب إذا حدث ذلك. آخرون يعتبرون أنّ المسافة الآمنة هي ألاّ يكتب أو يشارك شيئًا عن المعتقلين على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي. وهكذا! يصبح التردد سيد المشهد في حال التواصل، وتبيتين تنتظرين المبادرة من الطرف الآخر، لتكون صك "تبرئة" وصك"عاديّة وطبيعية."

عامان من العمر، وتستمر الحياة بمشكلاتها وصعوباتها، بالأعمال، بالالتزامات، لكن تصبح الحياة الشخصية تحت وقف التنفيذ. أعلم أنّ لهذا نهاية، و نهاية قريبة، ولكن يصبح الحديث حول ما تفقدينه حتّى تأتي هذه النهاية. وإلى أن تأتي هذه النهاية، عليكِ أن تحترفي: التطبيع مع السجن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.