شعار قسم مدونات

إلى أين تتجه الحكومات الأوروبية؟

blogs الشرطة

في منتصف ظهر يوم السادس والعشرين من أكتوبر عام 2017، كنتُ أشرب القهوة في أحد مقاهي مدينة موناكو، أحد أجمل وأغنى المُدن على ساحل الريڤيريا الفرنسي المليء بالسياح. دفعتُ الحساب وذهبتُ إلى أحد محطات القطارات في المدينة. كنتُ على وشك أن أصعد قطاراً مُتجهاً إلى المدينة الّتي تتواجد فيها جامعتي.

فُتحت أبواب القطار وكنتُ على وشك الصعود إلى أن تم إيقافي من قِبل رجلين بلباس مدني من بين عشرات المُسافرين. أخرجوا شارة الشرطة من جيبهما وعرّفوا أنفسهم. فتشوا حقيبتي الجامعية، طلبوا مني بطاقة الهوية، سألونني عن سبب مجيئي وعن من أنا واستمر التحقيق إلى خمسة عشر دقيقة تقريباً. كان من الواضح جداً أنهم اختاروني أنا من بين عشرات المسافرين والمسافرات الأوروبيين بسبب ملامحي العربية بل وكان يمكن للتحقيق أن يأخذ وقتاً أكثر إذا ما علموا أني طالبٌ في أحد أعرق جامعات فرنسا وأوروبا وبالكاد صدقوا أني طالبٌ فلسطيني من غزة يدرس في هذه الجامعة.

حين سألتهم لماذا اختاروني أنا من عشرات الأشخاص ردوا بأنه "إجراء أمني" و"عادي" وأنهم يفحصون ويفتشون الكل بالتساوي، لكن تلك لم تكن الحقيقة إطلاقاً. إذ حينما انتهوا من التحقيق معي لم يُبادروا حتى بتفتيش أي شخص آخر على متن القطار أو خارجه وبعدها اختفوا تماماً. هذه حادثة صغيرة حصلت مع شخص واحد في جنوب فرنسا وهو أنا، لكنها تحصل مع عشرات الأشخاص يومياً في جميع أنحاء فرنسا وأوروبا. 

مع وجود الهجمات التي حصلت بكل من باريس ونيس، ومع تدفق المُهاجرين من الخارج، استخدمت بعض الحكومات الأوروبية تلك الظواهر وخوف السُكان وبالغت باستخدام القوة وتفتيش جهات عرقية مُحددة
مع وجود الهجمات التي حصلت بكل من باريس ونيس، ومع تدفق المُهاجرين من الخارج، استخدمت بعض الحكومات الأوروبية تلك الظواهر وخوف السُكان وبالغت باستخدام القوة وتفتيش جهات عرقية مُحددة
 

حينما عُدت إلى جامعتي وناقشتُ الحادثة مع زملائي وزميلاتي، الأغلبية الساحقة من الطلاب والطالبات الفرنسيين والأمريكان ومن باقي أنحاء العالم استنكروا تلك الحادثة نكراناً شديداً ولم يتقبلوها. وهُنا نطرح سؤال مفصلي، إذا كانت الشعوب نفسها لا تريد هذه الممارسات من قِبلِ حكومتهم، فلماذا تستمر الحكومات في تنفيذها؟ إن هذه الحادثة تعكسُ موجة جديدة في معظم دول أوروبا وهي تنفيذ الحكومات الأوروبية لسياسات غير ديمقراطية تحت مُسميات رنانة خفيفة على قلوب المُستمعين وخادعة.

إذ حينما قال لي الشرطي بأنه "إجراء أمني عادي" أراد بذلك أن يُبرر هذا التفتيش بأنه مبني على حق الدولة السيادية للحفاظ على أمن وسلامة الأغلبية. وهذا ما تُفسره نظرية العقد الاجتماعي في العلوم السياسية، أي أن يتخلى الفرد عن بعض من حرياته من أجل حكومة تسعى للحفاظ على أمنه.

لكن مع وجود الهجمات التي حصلت في كل من باريس ونيس، ومع تدفق المُهاجرين من الخارج، استخدمت بعض الحكومات الأوروبية تلك الظواهر وخوف السُكان من الهجمات كمبررات وبالغت في استخدام القوة وسيادتها باستهداف وتفتيش جهات عرقية مُحددة والتشكيك بها وتسمية تلك الأفعال تحت مظلات كبيرة ك "إجراء أمني" أو "احتياط" لتبرر ممارساتها.

 

وأيضاً يجب الذكر أن بعض الصحفُ والقنواتِ الإعلامية عززت امتصاص هذه المفاهيم من داخل الشعوب الأوروبية بالتركيز على ظاهرة الإرهاب والتطرف والهجرة و"الإسلام الراديكالي"، الأمر الذي ساهم أيضاً في بناء قاعدة دعم جماهرية لصعود أحزاب يمينية مُتطرفة انتهازية استغلت هذه الظواهر وتغذت عليها لكسب الأصوات. 

أي نعم، لكل دولة حق وسيادة وقوة لحماية نفسها وشعبها ومصالحها لكن المُبالغة والاستهداف العرقي وسوء استخدام تلك السيادة يمس حقوق إنسانية كحق حرية التحرك وحق الخصوصية وحق عدم التمييز. ويمكن أيضاً ربط تلك الممارسات و"الإجراءات" بظاهرة التطرف الّتي تتواجد في جميع أنحاء القارة والعالم. إذ أثبتت التحقيقات أن سوء مُعاملة الشرطة والتمييز العرقي لهما آثار سلبية جداً على الآخر وقد يتسببا في جعل بعض الأشخاص متطرفين ومنفعلين.

في ستينيات القرن الماضي، استخدمت الشرطة الأمريكية العنف والتفريق العرقي تحت مُسمى
في ستينيات القرن الماضي، استخدمت الشرطة الأمريكية العنف والتفريق العرقي تحت مُسمى "حقوق الدولة" ضد السود الذين قادوا حملات التحرك الاجتماعي وقاموا بضربهم ومنعهم من التظاهر وسجنهم
 

وهُنا تكتمل دائرة مغلقة ونبوءة تحقق ذاتها. أي أن هذه الممارسات تؤثر بالسلب على بعض الأشخاص الذين يلجؤون لارتكاب هجمات إرهابية كردة فعل والّتي ليست بالضرورة مرتبطة ب "أيدولوجية إسلامية مُتطرفة" وكنتيجة، تزيد الحكومات من هذه "الإجراءات الأمنية" كردة فعل على تلك الهجمات وتزيد بعض القنوات الإعلامية من نشر أخبار مُسيئة لسمعة وصورة الأقليات العربية والمسلمة وبالتالي تؤثر على مدى اندماجهم في المُجتمع وبالتالي تؤدي لعزلهم أكثر، الأمر الذي يؤدي إلى ارتكاب بعض الأشخاص أعمال عنف وهجمات إرهابية أخرى وتكتمل الدائرة وتعيد نفسها من البداية.

لا أشير هُنا أنني أحاول أن أبررُ تصرفات بعض المتطرفين كهجوم أو تخريب أو إرهاب، بل أنبذ العُنف بكل أنواعه. لكن أحاول أن أشير إلى الجانب الأخر من القصة وهو وجود ظروف مُعينة عززت بشكل كبير فرص حدوث تلك النتيجة كسوء مُعاملة الشرطة العنيفة والإعلام وإلخ.

يجب التنويه أن هذه الممارسات ليست بالجديدة. فعلى سبيل المثال، في ستينيات القرن الماضي، استخدمت الشرطة الأمريكية العنف والتفريق العرقي تحت مُسمى "حقوق الدولة" ضد السود الذين قادوا حملات التحرك الاجتماعي وقاموا بضربهم ومنعهم من التظاهر وسجنهم. بالطبع، لم يكن السود قادرين على مواجهة أفراد الحكومة الأمريكية المُدججين بالسلاح لأن الدولة هي المحتكر الوحيد للسلاح والقوة. وشرعّة الحكومة الأمريكية تلك الأفعال والسياسات تحت ذلك المُسمى المُضلل.

سيعتقد البعض أنني أُكبّر من حجم هذا الحدث، لكن على العكس تماماً بل أحاول إعطائه حقه وحجمه المُناسب لأن الطريقة الوحيدة لتحسين الأمور هي بالتحدث عنها ونقدها نقداً بنائاً. لا أشير في هذه المقالة إلى أن الدولة الفرنسية وباقي الدول الأوروبية أصبحوا دول دكتاتورية، بل ما زالت تلك الدول تُقدم أفضل الخدمات لسكانها والحفاظ عليهم وسلامتهم، لكن في نفس الوقت، تبقى هُناك بعض المُمارسات التي تُمارسها تلك الحكومات غير ديمقراطية وغير حكيمة الّتي تخالف المبادئ والقيم العالمية. إذا أرادت دولة أن تتخد "إجراءات أمنية" فعليها تفتيش الكل وليس "البعض".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.