حسنا، قد يكون هذا السؤال سهلا بالنسبة إلى كثير من الناس، وقد يكون غير وارد أصلا بالنسبة إلى آخرين، إلا أنه من أكثر الأسئلة تجذرا وتشعبا بالنسبة إلي، ولدي في الحقيقة ألف سبب وسبب لكي أكره تلك المؤسسات، أدنى هذه الأسباب هو أنني أكرهها لأنها قبيحة، وقديمة، وبطيئة، وتبدو غبية بعض الشيء "أعني الفكرة ذاتها" ولكني سأحاول أن أشارككم سببا هو من أهم الأسباب عندي.
كنت أسمع كثيرا من مدير المدرسة خطبة مكررة مبتذلة مفادها بأننا أمل الغد المشرق، وجيل المستقبل، كنت حينها في الابتدائية، وجعلني ذلك متحمسا لهذا الغد، وحينما انتقلت إلى الإعدادية انتقل معي هذا الخطاب وكنت فعلا أظن أن ذلك الغد لم يحن بعد، ولا زلت أذكر أول يوم لي في الثانوية، لا أنكر أبدا أنني كنت فخورا بذلك، والعجيب أن الخطاب ذاته كان يصاحبنا كذلك في الثانوية، رغم أن المدراء اختلفوا لكن الخطاب كان واحدا، أتواصوا به؟!
الحياة الجامعية لم تختلف كثيرا، ظل الخطاب نفسه غير أنه كان مشوبا بشيء من السخرية، ولا أشك في أن هذه المتاهة كانت ستستمر إلى مرحلة الماجستير، ثم الدكتوراه ما لم أضع لها حدا، وعندما انضممت إلى الحياة العملية اكتشفت أنني كنت أساق إلى سراب بقيعة، ولعلني كنت سأتقبل هذا المصير لو لم أجد والدي الذي ذهب بي بالأمس إلى المدرسة يقول لي اليوم وبعد مسيرة طويلة :"ما هكذا تورد الإبل يا فتى "أرد عليه "صدقني يا أبي، أنا أعرف ما أقوم به، لقد درسناه في الكلّية"، مبتسما سخرية "نحن لسنا في الجامعة يا بني"، "أومال إيه لازمتها الدراسة دي يا حج".
ما أريد قوله هو أن الحياة العملية تختلف تماما عن حياة المدارس والجامعات، وأن الإنسان مهما حصل على درجة أكاديمية عالية، فلا يزال طالبا فقيرا في الحياة العملية "وهي الأساس"، هذا هو التعبير المهذب، أما التعبير نصف المهذب هو "إنه ليس بشيء في الحياة العملية"، ولا أريد أن أكتب التعبير الخالي من التهذيب، أنتم جميعا تعرفونه.
لقد جعلت المؤسسات التعليمة منا آلات استقبال فحسب، لا فائدة لها غير أنها تحفظ البيانات، وصدقوني يا أصدقائي، العبرة ليست بوفرة المعلومات، هذا ما كنت أظنه سابقا، لكنني أدركت بأن العبرة في استغلال المعلومات على الطريقة الصحيحة، والمؤسسات التعليمية تقف حائلا دون ذلك، إنها تجعل الإنسان غبيا في أزهى عمره وأغزرها فكرا وإبداعا، إنها ببساط تجعلنا عاجزين عن العمل، وعند تخرجنا منها نكون فعلا عاجزين عن العمل.
لم أكن أدرك بأن المدرسة غبية قبل أن أقرأ شيئا من اللامدرسية، تماما كما كنا لا ندرك قبل سنوات بأن جوالاتنا غبية قبل اكتشاف الجوالات الذكية، الأمر ذاته هنا، واللامدرسية نظام تعليمي ذكي في مقابل النظام المدرسي، والسر يكمن في التطبيق. فاللامدرسية تقول لنا: افعل وجرب ومن خلالها تعلم، ألا يبدو ذلك مقنعا؟! كثير منكم سيظن بأن هذا النظام سيء، ويقول بعضهم بأن الإنسان تجاوز مرحلة التجريب، وهذا طبعا تصور خاطئ عن الفكرة، فالفكرة هي أن يطبق الإنسان أكثر مما ينظِر.
لم أنته بعد من هذه النقطة، لكنني سأجبر نفسي وأنهي حديثي بهذا الموقف .في إحدى إجازاتي الجامعية ذهبت مع صديق لي في نفس عمري أو يكبرني قليلا، غير أنه شاب متقد ويعمل تاجرا ولم يدرس في الجامعة، ذهبت معه لمقابلة رجل قال لي بأنه مستثمر، جلست معهم خلال اللقاء وكنت أتأملهم بتمعن، هذا ما أفعله دائما، وعندما انتهى اللقاء قاما وسلم الرجل الخمسيني على صديقي بحفاوة، وقال له: سنعمل معا في هذا المشروع، وأرجو منك أن تأتي بمزيد من الأفكار يا بني .
لقد فكرت في الأمر مليا، فكرت فيه كثيرا، ألا يملك الرجل مالا؟!
ألا يملك عقلا؟!
ماذا يريد من هذا الشاب العشريني المتخبط؟!
الإنسان يكون أكثر إبداعا في صغره، وكلما ازداد عمرا، اقترب إلى العجز، العجز لا يصيب الجوارح فحسب، إنه يصيب العقل كذلك، وهذا لا يعني أن الشخص الكبير غير مفيد، كلا، إنه يحمل الكثير من الصفات التي يفتقر إليها الشخص الصغير، وأولها الخبرة، لكن الأفكار الإبداعية غالبا ما تولد في عقول الشباب المتقدة، وهذا من أكبر أسباب خلافي مع المؤسسات التعليمية .
أخيرا أيها الشاب، إن كنت تتطلع إلى المستقبل المشرق الذي أخبرك به مدرس الابتدائية، فيسرني إخبارك بأنك تعيشه الآن، حاول أن تستثمر فيه .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.