حجم الأزمة في أمتنا ضخمٌ، ضخمٌ بحجم الفارق بيننا وبين عدونا على سائر المستويات.. وأهم من إدراكنا لضخامة الفجوة إدراكنا لحجم المجهود الهائل الرهيب الذي نحتاج إلى إنفاقه وبذله كي نضيق تلك الفجوة ونصل إلى مستوى الندية التي تنقذنا من كوننا فريسة تُنْهَش وتؤكل وهي تعجز عن الرد.
لكن الأهم منها، وهو موضع كلامنا في تلك السطور، هو إدراك الحقيقة القائلة بأن المجهود الذي سنبذله والطاقة التي سننفقها لن تكون مجرد مجهود علمي لتضييق الفجوة العلمية، أو مجرد مجهود اقتصادي لتحقيق الاكتفاء أو الاستقلال الذاتي، أو مجرد مجهود ثقافي لتعزيز الهوية والانتماء ومحاربة الذوبان في الثقافة والأخلاق والقيم الغربية.. الحقيقة أن المجهود الأكبر سيكون كفاحا دمويا هائلا بكل معنى الكلمة! لأن الواقع ببساطة أن المحتل الأجنبي لن يتركنا ننهض وهو يتابع مجهودنا بإعجاب، بل سيستعمل كل أسلحته لمحو وإجهاض وإخماد كل محاولة نهضة واستقلال.
مجرد إدراكنا أن بيننا وبين النهضة صراع دموي كبير هو تقدم على مستوى الوعي.. وهو وعي فارق على مستوى التصور وطريقة الإعداد ونوع الحركة.
يروي أمين الحسيني في مذكراته واقعة حدثت في الأربعينات، حيث كان يحاول مع الألمان إعلان دعمهم لوحدة الدول المغربية التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي في ظل الحرب العالمية الثانية، ففوجئ بوكيل وزارة الخارجية الألماني للشؤون الشرقية يخبره بأن هذا ليس من مصلحة ألمانيا، فحاول أمين الحسيني التلويح بورقة لجوء تلك الدول للشيوعية طلبا للاستقلال، ففوجئ به يقول له:
"هذه الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرا عليها من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب وتوزيع العدل الاجتماعي وغير ذلك من الوسائل، بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يُخْشَى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تألفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى ويعيد التاريخ نفسه".
(مذكرات أمين الحسيني ص120)
لقد قيل هذا الكلام وقت أن كان العرب صفرا في ميزان القوى الدولية، وقت أن كانوا تحت الاحتلال الغربي، ووقت أن كان الصراع العالمي لا يعبأ بالمسلمين بل يستخدم أراضيهم ومواردهم ورجالهم في حروبه!
تلك الكلمات تتردد في كتابات صناع القرار حتى الآن، ومن يتابع -مثلا- مقالات جورج فريدمان، مدير ستراتفور، لن يجد منه سوى منطق الإنهاء والإبادة، فلولا أنه كان من الأمريكان لقال الناس: هذا أشد من داعش وأشرس وأخطر.
والشاهد المقصود أن الغرب لن يقف متفرجا علينا يتابع صعودنا بإعجاب، ومن هنا فإن بذل المحاولات البنائية في أبواب الاقتصاد والثقافة والتقنية ستظل جميعها نفخا في الهواء ما لم تكن مبذولة في تحقيق التحرر والاستقلال، في باب خوض المعركة المفروضة علينا والتي ستشتد فصولها كلما بدا أننا نتقدم.
ها نحن كما يرى الجميع.. لا يطرف للغرب جفن ولا يتألم له ضمير أمام ما يجري في سوريا أو ليبيا أو اليمن، أو ما جرى في مصر.. لا بأس على الإطلاق بمقتل الملايين وتدمير البلاد وتشريد عشرات الملايين واكتظاظ السجون مقابل ألا تخرج من بلد من تلك البلاد عن هيمنته وسيطرته! ولتذهب سائر أدبيات حقوق الإنسان إلى الجحيم.
التحرر أولا..
يجب أن تنفق كل الطاقات في سبيله، كل المجهود العلمي، كل الأفكار المبدعة، كل الموارد الاقتصادية، كل الأساليب الدعوية.. إلخ!
ولئن أُنْفِقَ أي شيء من هذا في غير معركة التحرر فلن يكون مصير صاحبه إلا قتيلا أو سجينا أو طريدا أو واحدا من رجال الغرب الذي يُستغل مجهوده لخدمة الحضارة الغربية ذاتها.. تلك هي الخيارات التي لن يجد عاملٌ لمصلحة الأمة غيرها.
حتى لو اعتنقنا الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية لن ننجح، ومن حاولوا ذلك لم ينجحوا في مصر وفوجئوا بانقلاب عسكري يدهس الديمقراطية وحقوق الإنسان بدعم الغرب وإذنه وتأييده، ذلك أن المنظومة الرأسمالية بطبيعتها لا تنجح مع حاكم "وطني" حريص على مصلحة بلاده حتى لو لم يكن مسلما، بل لا بد لها من الحاكم الفاسد المستعد لبيع البلد والأجيال لأجل مصلحته (ويراجع هنا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بيركنز)، فكيف إن كان مسلما وصالحا وتسكن عروقه أحلام بعث حضاري جديد؟!
أكثر ما نحتاجه هو الإفاقة من الوهم.. من هذا الخدر اللذيذ الذي يتسرب إلى أرواحنا وأفكارنا.. الإفاقة من التصور الساذج الذي يتوهم أننا قد نحقق النهضة دون أن نمر بالملاحم الهائلة التي عبرت عليها كل الدول التي حققت استقلالها ثم نهضت.
إنه بقدر ما أن قرار الاستسلام للاستبداد والاحتلال هو أسهل شيء على الإطلاق، بقدر ما أن قرار المقاومة هو أصعب شيء أيضا. لأن معركتنا على الحقيقية ليست مجرد معركة شعب ضد حاكم، بل ولا معركة أمة ضد منظومة حكم، بل هي المعركة الحضارية العالمية لأن أمتنا تواجه استبدادا صنعه ودعمه ويسنده الاحتلال والنظام العالمي نفسه. فهي معركة ثقيلة ثقل الهيمنة العالمية، متسعة اتساع الجغرافيا، عميقة عمق التاريخ، شرسة شراسة الاستبداد والاحتلال معا.
وإنه بقدر ما تحتاج تلك المعركة إلى المجهودات الهائلة، بقدر ما يكون ضياع تلك المجهودات في غيرها خسارة مرتين: خسارة إنفاقها في غير طائل، وخسارة حرمان الأمة منها في معركتها الأساسية.
ولولا أن الله وعد عباده بالنصر لكان اليأس سيد الموقف! ولولا أن الله وعد أن الأمة لن تهلك بسنة عامة ولا بتسليط عدو عليها يستأصل شأفتها لما شككنا أن ذلك قريب! ولولا أن الله يُجازي من بذل واجتهد وإن لم يدرك النتيجة لما بذل أحد في هذا الظرف دينارا ولا قنطارا ولا نقيرا ولا قطميرا!
الإيمان بقضاء الله وقدره ووعده إيمان مثير للهمم، أو كما يقول جارودي:
"سوف يكون غريبا اعتبار عقيدة -قادت المسلمين في غضون ثلاثة أرباع القرن إلى تجديد أربع حضارات كبرى، وإلى الإشعاع على نصف العالم- عقيدة قدرية منقادة، هذه الدينامية في الفكر والعمل هي عكس القدرية؛ لقد اقتادت ملايين الناس إلى التأكد من أنه كان يمكنهم أن يعيشوا على نحو آخر"
(وعود الإسلام ص32، 33)
أو بعبارة أخرى يقول ولفرد كانتول سميث، واصفا طبيعة الإسلام:
"النصرانية أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم"
(الإسلام في التاريخ الحديث، ص9)
ولهذا فالمسلم في بذل دائم، والثوار المجاهدون في الأمة لا يُؤْتَوْن عادة من قلة بذلهم، بل من بذلهم في غير الهدف أو بغير الوسيلة الصحيحة.. إنها مشكلة نضج ورشد ووعي لا مشكلة فقر في البسالة والشجاعة والفداء. والوهم بأننا يمكن أن نعبر إلى التحرر والنهضة بلا ملاحم كبرى، كالوهم بأننا يمكن أن نعبر الملاحم الكبرى بمجرد البسالة والشجاعة والفداء!
إننا في حاجة لمكافحة الوهم.. الوهم الذي يداعب خيالنا كي يلقينا بعيدا عن المسار الصحيح!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.