من الجاليات من يرى وجوب الانتساب إلى مذهب عقدي معين مع الحفاظ على أوراد وتعاليم طريقة من طرق التصوف، فمن لم يشاطرها في مشربها السلوكي، فلا مكان له في مسجدها. وأما الحركات الإسلامية المعاصرة من جماعة الإخوان المسلمين أو الجماعة الإسلامية في باكستان فلهم مراكزهم ومساجدهم الخاصة. وأما التيار السلفي في مختلف توجهاته وتفريعاته وتنوع مشايخه، فلكل منهم مسجده الخاص، وقد تكون العداوة والتدابر فيما بينهم أشد من المجموعات الأخرى.
فهناك جاليات تقوم بتأسيس مراكزها باسم القبيلة وإن تسترت بالمصلحة العامة وخدمة الدين، فالمسجد أو المركز لا يمكن أن يساهم فيه سواء في الناحية الإدارية أو الأنشطة الدعوية إلا من ينتمي إلى هذه القبيلة. وقد ينشب الخلاف الإداري بين المجموعة الواحدة المتجانسة، فينسحب قسم منها ليؤسس مسجدا جديدا خاصا به.
وتسكن الجالية المسلمة في أغلب الأحيان ضمن موقع جغرافي معين أو في حارة ومنطقة خاصة، وكل هذه المراكز والمساجد تقام في هذه الأحياء، فتجد مثلا ستة مساجد في حدود كيلو مترين فقط، كما تلاحظ وجود مسجدين كبيرين ليس بينها مسافة لا تتجاوز عشرة أمتار، وقد تصاب بالذهول إذا رأيت مسجدين اثنين في عمارة واحدة، لأن الإخوة القائمين عليها كانوا من أسرة ومنهج واحد، ولكن دبَّ الخلاف بينهم في أمور مادية، ففتحت كل مجموعة مصلاها الخاص.
ومن أغرب ما سمعت في هذا الموضوع بأن إدارة البلدية في إحدى المدن الغربية أعطت مساحة أرض لإقامة وبناء مسجد ومركز لمجموعة من المغتربين من أبناء الجالية المسلمة ينتمون إلى حركة من الحركات الإسلامية، فلما وصل الخبر إلى مجموعة من حركة أخرى، قدموا بدورهم طلب التماس إلى البلدية لمنحهم أرضا لإقامة مسجد لهم، فأعطت البلدية أرضا مقابلا للأرض السابق، فكل مجموعة تبذل قصارى جهدها لإقامة مركزها الخاص قبل صاحبتها، والذي يكلف بعشرات الملايين من الدولارات، وقد لا يستبعد أن ينشأ خلاف بين الجماعة الواحدة بعد اكتمال بناء المسجد، فيصبح مستقبله في كفِّ عفريت لا يُعرف أين ينتهي، لأن حوادث مماثلة قد وقعت من قبل، وقد وصل بعض خلافات المساجد إلى أبواب المحاكم، ونجم عنها انقسام الجالية على نفسها .
وهذا التصرف ينبئ عن خلل منهجي في فهم الهدف الأسمى لعمارة المساجد وتشييدها، الذي يراد منه تأليف قلوب المسلمين وتجميعهم في بوتقة واحدة ليكونوا عضوا واحدا ويدا واحدة دون من سواهم، ولكن عُكس الأمر، وحُولت المراكز إلى ساحات للتعارك، وتغذية للعنصريات والمذاهب، إلا من رحم ربك.
وإذا أريد إصلاح المساجد في بلاد المهجر وأداء رسالتها الدعوية على الوجه الأكمل لتكون منارة للهداية ومثالا جميلا لنصاعة الدين الإسلامي وصلاحه في كل زمان ومكان، وأن المنتسبين إليه لا يفرقهم عرق ولا لون ولا لغة، فعليهم إعادة دور المسجد إلى سابق عهده، والترفع عن العصبيات والمذهبيات التي لا تزيد الأمة إلا تفرقا وتشتتا وتدابرا، وتجعلها هدفا سهل المنال من قبل من يتربصون لها السوء ويضمرون لها الحقد والكراهية.
كما يجب إعادة النظر في وضع المساجد والمراكز الإسلامية في بلاد المهجر، وإعداد دراسة ميدانية في وضع الجالية ومدى حاجتها ببناء مراكز أخرى، ومعرفة ما إذا كانت المراكز القائمة الآن تلبي حاجتهم أم لا؟، والسعي لجمع كلمة المسلمين، والتحذير من مغبة الاستمرار في مبدأ المناكفة وإثبات الوجود الذي ينحر جسد الجالية، ثم تنمية القاسم المشترك فيما بينها، وهو أكثر من أن يحصى، وتذويب الخلاف أو تقليله بقدر الإمكان، وإبراز الوجه الناصع للدين الإسلامي الذي يحث الائتلاف والاتفاق، ويمنع التفرق والاختلاف.
وأهم من ذلك هو تحمل الجالية المسلمة في المهجر المسؤولية الأخلاقية تجاه دينها وعقيدتها لأن الناس ينظرون إلى أخلاقهم وتصرفاتهم ومدى توافقه تجاه هذا الدين الذي ينتسبون إليه، أكثر من ادعائهم وعنترياتهم وتغنيهم بأمجاد وانتصارات لم تتحقق بأيديهم، لأن تأثير العمل أبلغ وأجدى من كلام فارغ ليس له حقيقة في أرض الواقع.
كما يجب على زعماء الجالية المسلمة في بلاد المهجر السعي لتوحيدهم، والبعد عن كل شيء يُبعدُ الهّوة بينهم، وألا يكونوا سببا في تمزيقهم وتفريقهم، وتفويت الفرصة على كل من يريد تشويه سمعة الإسلام والمسلمين. ووفق الله تعالى الجميع لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.