شعار قسم مدونات

الاستيراد قتل للهوية وعائق للحضارة

blogs - سفينة تحمل حمولات استيراد إلى ميناء
المتأمل للعالم المتخلف سيجده تستحوذ عليه فكرة الاستيراد وتكبل حيويته وتشل نشاطه الذاتي والفكري، فهو كثيرا ما يستورد ونادرا ما ينتج وقلما يصدر، ومن طبيعة المجتمع المتخلف في هذه الحالة، الولع المتوحش بالاستيراد، والاستيراد في آخر المطاف هو نتيجة لسبب كامن في المعادلة الشخصية للمستهلك له عوامله النفسية والمادية، وتحدياته الداخلية والخارجية، إلا أن الاستيراد المتوحش له تأثير كبير على المستهلك، وهذا التأثير يكمن أساسا في شل حركة المجتمع وفي طمس هويته وثقافته، وفي بعض الأحيان يكون التأثير حتى على معتقده وبالضرورة على مجتمعه.

ومن لوازم الاستيراد أنه كثيرا ما يغني عن الإنتاج، فيصبح المجتمع في هذه الحالة تابعا للمنتج، والعكس غير صحيح، وهذا الاستهلاك له انعكاسات سلبية للغاية، ليس على الجانب الاقتصادي فقط، بل يتعدى لما هو حساس وحرج، ومن تجليات انعكاساته السلبية على المجتمع المستورد الآتي:

1. الاستيراد يحول دون تفجير الطاقات الإبداعية
لطالما كانت عقلية الاستهلاك، عائقا حضاريا وشللا اقتصاديا ومكبلا حركيا وطمسا هوياتيا وخللا ثقافيا بامتياز، لكون هذه العقلية تحول دون تفجير الطاقات الإبداعية في المجتمع الاستهلاكي، وتقف دون القيام بواجبها الحضاري والتاريخي، فالطاقات كي تنفجر وتحقق تأثيرا فعالا تحتاج لوجود الحاجة باعتبارها سببا يوجه الفرد المكون للمجتمع المحتاج، ليفكر في حل وطريق لإيجاد هذه الحاجة ،فتسخر في ذلك الطاقات والإبداعات والتفاعلات التي تسعى إلى تحقيق المنتوج الذي يلبي الحاجة في المجتمع.

عندما نستورد منتوجا فلا نستورده كشيء مجرد بل الأمر أبعد من ذلك بكثير، فالمنتوج يصحبه في عملية الاستيراد جملة من المقومات والعناصر التي كثيرا ما تفسد المجتمع الاستهلاكي
عندما نستورد منتوجا فلا نستورده كشيء مجرد بل الأمر أبعد من ذلك بكثير، فالمنتوج يصحبه في عملية الاستيراد جملة من المقومات والعناصر التي كثيرا ما تفسد المجتمع الاستهلاكي

وهكذا يتحقق الفعل مع كل بزوغ للحاجة، لكن عندما نستغني عن تلبية الحاجة بالاستيراد تصير هذه العملية تعمل عملا عكسيا والذي تبرز في قلب المعادلة وعكس الحكمة الشهيرة التي تقول (الحاجة أم الاختراع) إلى (الحاجة يغني عنها الاستيراد) فتحول هذه المقولة دون تفجير الطاقات الإبداعية، فتتبدل هذه الطاقات من إيجابية الفاعلية والنشاط، إلى سلبية الخمول والهمود والجمود، وتميل إلى الاتكال والاعتماد الكلي على المنتج بل تنوط مصيرها ووجودها الحضاري بالمنتج.

2. الاستيراد طمس للهوية
بل نحن عندما نستورد منتوجا فلا نستورده كشيء مجرد بل الأمر أبعد من ذلك بكثير، فالمنتوج يصحبه في عملية الاستيراد جملة من المقومات والعناصر التي كثيرا ما تفسد المجتمع الاستهلاكي، من أهمها هوية وثقافة المستهلك.

نجد أن فكرة الاستيراد تهيمن على نمط معالجة المشاكل التي تتخبط فيها الأمة، فمشاكلنا في أي مجال لا نبحث عن حلول لمعالجتها بل نقفز عن الحل

فمثلا لو فككنا العناصر المعنوية لمنتوج ما "كسروال الجينز" الضيق –مثلا- فسنجده يعبر عن المعادلة الشخصية للإنسان المنتج؛ أي عن نمط هوياتي وثقافي غيري بالأساس ولا يمت بأي صلة لهوية المستهلك، ولكن هذه المفارقة تذوب مع الوقت بفعل عملية الاستيراد الدؤوبة والمحبوكة التي تفعل فعلتها بالهوية، هذه الفعلة يمكن فهمها من خلال صياغة هوياتية لمفهوم الاستيراد فيصبح الاستراد بهذا المعنى يعبر عن حقيقة مفادها أن:

الاستيراد هو تبديل منتوج ثقافي هوياتي أصيل بمنتوج دخيل زنيم، يعبر عن النسق الحضاري للمنتج ويسيء للمستهلك، فيصير بدل منتوج يحمل الطبيعية الهوياتية الأصلية نسمح بتسلل هوية غيرية مضادة ومناقضة أي بدل أنا هو، فننصرف بعدها للإجابة على سؤال الهوية: من نحن؟ بدل سؤال النهضة لم تخلفنا وتطور غيرنا؟ فيزيد الطين بلة. وإذا كان منتوج حقير يحمل هذا التأثير القوي فكيف بالنظريات الاجتماعية والتربوية؟

3. استراد الحلول يكرس المشاكل
بالإضافة إلى سلبيتيْ الهوية وفقدان الفاعلية والحيوية للطاقات الإبداعية في المجتمع، نجد أن فكرة الاستيراد تهيمن حتى على نمط معالجة المشاكل التي تتخبط فيها الأمة، فمشاكلنا في أي مجال لا نبحث عن حلول لمعالجتها بل نقفز عن الحل الذي ينبغي أن يخرج من صميم المنتج للمشكل بالأساس، إلى استلهام الصيدلية الغربية لعملية المعالجة التي تطال العالم المتخلف، فيتحقق عن هذه العملية تجذر وتعزز وتقوي مناعة المشكل، لكوننا اعتمدنا في عملية المعالجة على استلهام صيدلية دخيلة ذات دواء وجد ليعالج المرض الذي استشرى في جسد المنتج أساسا، لا المرض الذي ألم بجسد المستهلك.

فتجرع الدواء في الحال الأولى يحقق المقصد من تحقيقه، لكن عندما نقحم الدواء قسرا في جسد المستهلك في الحالة الثانية لا يتحقق منه إلا الأعراض الجانبية السلبية، لأن الدواء عندهم يستقيم مع دورتهم الحضارية (الازدهار) ويصطدم مع دورتنا (الانحطاط).

وقفت اليابان من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، استوردت هي الأفكار، واستوردنا نحن الأشياء
وقفت اليابان من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، استوردت هي الأفكار، واستوردنا نحن الأشياء

بل إن عملية استيراد الحلول تحول دون معرفة حقيقة العلة والعطب، لكون من طبيعة المتخلف عدوله عن تفعيل نظام العلية والسببية في تعاطيه مع المشاكل، فينتج عن هذا معالجة الخلل في النتيجة، وهذه المعالجة في حد ذاتها مشكل لكونها ما تغيب حتى تظهر وبقوة، لأنا لا نعالج القابلية للمشكل الذي تصدر عنه المشاكل التي نزعم معالجتها، فمن ثم نحتاج إلى معالجة القابلية للمشكل، لا المشكل نفسه، لكون المشكل ما هو إلا نتيجة لتلك القابلية، فالاكتفاء بمعالجة المشكل لا يجدي نفعا، لكونه سرعان ما يظهر من جديد، ويتولد عنه مشكل آخر وآخر. ولكن معالجة القابلية للمشكل؛ يعني استئصال المرض العضال، المولد للمشكل الدائم التكرار والانتشار، فهذا هو الرهان الذي ينبغي على الطبيب معالجته ومقاومته حتى لا يظهر من جديد ويتكرر. وقديما قال أبو نواس: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحلول الاجتماعية.

4. سلبية تفاعل المستهلك مع المستهلك أمر طبيعي
ومن نتائج الاستيراد المتوحش وغير المعقلن تحقق سلبية التفاعل مع المستهلك -بنصب اللام- وذلك أن من عادة المنتوج الثقافي والحضاري الذي تبلور ونشأ في حضارة تعيش الطور الثاني من الدورة الحضارية (الازدهار) لن يستقيم مع حضارة تعيش الحلقة الثالثة من الدورة الحضارية (الانحطاط)، لكون حقيقة المنتوج ما هو إلا ترجمة للمعادلة الشخصية للإنسان المنتج، ولا تعبر بالضرورة على المعادلة الشخصية للإنسان المستهلك، فمن ثم تحقق سلبية التفاعل مع المنتوج أمر طبيعي بالنسبة للمستهلك، وذلك أن في الحالة الأولى يكون المنتوج هو تجلي للمنتج، وفي الثانية يكون المستهلك امتدادا لعقلية المنتج التسويقية.

وقد صدق فيلسوف الحضارة مالك بن نبي الذي ينبغي على شباب الأمة الذين يحملون هم النهضة أن يعضوا على مشروعه بالنواجذ، عندما قال: "وقفت اليابان من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، استوردت هي الأفكار، واستوردنا نحن الأشياء" ولكن كيف نقف هذه الوقفة الجريئة؟
هذا غيض من فيض والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.