شعار قسم مدونات

حكايات.. عن الغش في الامتحانات

blogs الغش بالامتحانات

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي كنت وقتها مدرّسا بالمرحلة الإعدادية في مدرسة الحليمية التابعة لإدارة غرب الجيزة، وكنا نذهب كملاحظين ومراقبين في امتحانات الثانوية العامة في مدارس القاهرة. وفي إحدى المرات كانت ملاحظتي في مدرسة الأميرية الثانوية، وكانت هذه المدرسة في شارع القصر العيني وقريبة من مبنى وزارة التربية والتعليم بالفلكي. وفي اليوم الأول لامتحانات الثانوية العامة، وكانت المادة هي اللغة العربية، وكان الامتحان على فترتين: الفترة الأولى للتعبير والقراءة والقصة، والفترة الثانية للنحو والنصوص والبلاغة.

 

والعجيب أن هذه المدرسة (الأميرية) كانت بمنزلة قصر من قصور أسرة محمد علي التي استولى عليها ظباط (يوليو/تموز) سنة ١٩٥٢، وكانت تبدو مدرسة خاصة لا يدخلها إلا أبناء الطبقة العالية، وهذا ما تأكّد لنا في هذا الوقت. فرئيس اللجنة ورؤوساء الأدوار والطرقات من أصحاب البِذَل الفخمة ذات ربطات العنق المنمّقة التي تجعلك تشعر أنهم دبلوماسيون وليسوا مدرّسين ولا ينتمون إلى هيئة التدريس في شيء. حتى السكرتيرة التي تجلس على دفتر التوقيع بالحضور والانصراف والتي تقوم بتوزيع اللجان على المدرسين ما هي إلا مانيكان أو عارضة أزياء، ولا أعتقد أن مرتب المدرّس الذي كنا نحصل عليه يكفي لزينتها ومكياجها. الطلاب يأتون إلى المدرسة بالسيارات الفارهة وبعضهم يأتي بحراسة حتى باب المدرسة.

 

وكيل أول الوزارة يدخل إحدى اللجان ليسلّم على طالب ويسأله عن أحواله وعن حال الامتحان، وهل هو مبسوط من الامتحان! وهل هو مرتاح من الملاحظين أم يغيرهم له لأجل خاطره!

قبل أن يبدأ الامتحان بيوم كنا موجودين في المدرسة لمعرفة المعلومات الخاصة بالامتحانات، وهو اجتماع روتيني، ولكن الغريب في هذا الاجتماع هو الإصرار على عدم مضايقة الطلاب بأي أسلوب من الأساليب، والسماح للطالب بالتدخين ولكن خارج باب الفصل، والسماح بشرب المثلجات والمياه الغازية داخل لجنة الامتحان.

 

وأبدى بعض المدرسين اعتراضهم، ولكن كان الرد أنها الأوامر من أجل راحة الطالب (ونحن كلنا في خدمة الطالب)، وبرغم أننا لم نسترح لهذه العبارة فإننا أبدينا استعدادنا لإطاعة الأوامر. وكانت هذه الفتاة الجميلة التي تقوم بتوزيع اللجان تسأل كل مدرس عن تخصصه العلمي، فمثلا سألتني عن تخصصي فأجبت: "مدرّس رياضيات"، فسألتني: "هل تعرف رياضيات حديثة؟" فأجبتها: إنها تخصصي، فقالت لي: "سوف أحتاجك، ولا تخف هتنبسط معانا"، ولكن لم أعرف في أي شيء تكون الحاجة إليّ، وما نوع الانبساط الذي سوف أحصل عليه.

 

في اليوم الأول للامتحانات كانت الورقة الأولى من مادة اللغة العربية، ففوجئنا بوصول السيد وكيل أول الوزارة وقتها وهو "منصور حسين" الذي أصبح وزيرا للتعليم بعد ذلك، ومعه شخصيات من الوزارة، ورئيس اللجان ومن معه، وعدد من الصحفيين والتلفزيون ويقومون بالتصوير وبيان انتظام سير الامتحانات.

 

كل ذلك جميل، ولكن.. لكن ما حدث في إحدى اللجان مثلا كان غريبا، وكيل أول الوزارة يدخل إحدى اللجان ليسلّم على طالب ويسأله عن أحواله وعن حال الامتحان، وهل هو مبسوط من الامتحان! وهل هو مرتاح من الملاحظين أم يغيرهم له لأجل خاطره! ويبتسم مع ضحكة سخيفة هل أغير لك اللجنة كلها؟! ويبتسم الجميع بما فيهم رئيس اللجان ورؤوساء الأدوار، وينصرف وكيل أول الوزارة مع وعد من رئيس اللجنة بأن كل شيء سوف يكون على ما يرام وطمأنة وكيل أول الوزارة بألا يقلق من شيء.

 

انتهى الموقف عند هذا الحد وتم عمل اللازم مع هذا الطالب، وأثناء الفسحة بين المادتين تلاقينا كمدرّسين ودار بيننا حوار. كان المدرّسون منهم مَن يتمنّى أن يكون الموقف معه ويتصوّر مع وكيل أول الوزارة، ومنهم مَن رفض هذا التدخل، وكان مِن بين المدرّسين الرافضين لهذا الأمر مدرّس اسمه أحمد (صعيدي) رفض هذا التدخل رفضا تاما. فسألناه: "وماذا كنت ستفعل لو كنت مكاننا في هذه اللجنة؟!" قال: "كنت سأرفض أي تدخل في لجنتي لأنني أنا صاحب اللجنة".

 

بمجرد خروج الأستاذ أحمد من الفصل دخل مدرس أول مادة اللغة العربية ليجيب لهذا الطالب عن كل أسئلة هذا الامتحان إجابة نموذجية، وأعطاه هو ولجنته وقتا إضافيا بعد انتهاء الوقت الأصلي
بمجرد خروج الأستاذ أحمد من الفصل دخل مدرس أول مادة اللغة العربية ليجيب لهذا الطالب عن كل أسئلة هذا الامتحان إجابة نموذجية، وأعطاه هو ولجنته وقتا إضافيا بعد انتهاء الوقت الأصلي
 

عرفنا أن هذه المدرسة تجمع أبناء الشخصيات المهمة في المجتمع. ابن ثروت عطا الله وكان محافظا للفيوم، وابن أيمن الحديدي رئيس كنترول الثانوية العامة، وهذا تابع للواء عبد المنعم واصل، وهذا تابع للواء خيرت، والعجيب أن هذا الطالب الذي تحدث معه وكيل الوزارة منصور حسين كان ابن حسب الله الكفراوي وزير التعمير واستصلاح الأراضي في ذلك الوقت.

 

وتشاء الأقدار أن يكون الأستاذ أحمد في الفترة الثانية ملاحظا على اللجنة التي بها ابن حسب الله الكفراوي، وضحك أغلب المدرسين وهم يقولون للأستاذ أحمد: "ماذا ستفعل الآن!". وبدأت اللجنة، وإذا بعين الأستاذ أحمد لا تغادر هذا الطالب ولا غيره، فهو يؤدي واجبه بكل احترام وأدب، ومضى جزء من الوقت عصيب على طلاب هذه اللجنة. أشار الطلاب إلى العامل بأن يدخل مشروبات مثلجة للجنة كلها بما فيها الأستاذ أحمد لكنه رفض أن يشرب، أشاروا عليه بعلب السجائر لكنه رفض، أشار ابن حسب الله الكفراوي إلى العامل وأعطاه رقم تليفون وقال له: "اجعلهم يتصلون بهذا الرقم وينتظرني على التليفون".

 

وهنا قامت الدنيا ولم تقعد، حركة عجيبة خارج الفصل، تحركات هنا وهناك، جاء مراقب الدور وجاء رئيس الدور وطلب كل منهم من الأستاذ أحمد أن يرتاح لبعض الوقت ويشرب شايا أو مشروبا باردا على حسابهم لكن الأستاذ أحمد رفض. مرت دقائق ثم حضر رئيس اللجنة الذي طلب من الأستاذ أحمد أن يغادر الفصل لكنه أصر على الرفض وعدم ترك مكانه، وهنا صاح فيه رئيس اللجان بأنه هو المسؤول عن اللجنة بأكملها بما فيها الأستاذ أحمد، وأنه ينصحه بحق الزمالة وإلا سوف يخرج من اللجنة يجد خطابا بنقله إلى منطقة نائية مثل البحر الأحمر أو مطروح. هنا فقط انكسر الأستاذ أحمد لأن الأمر أصبح يمس مستقبله ومستقبل أولاده وظلم كبير سيقع عليه، ومَن سيرفع عنه هذا الظلم؟! هنا أدرك أنه يسير ضد التيار فآثر السلامة.

 

والعجيب أنه بمجرد خروج الأستاذ أحمد من الفصل دخل مدرس أول مادة اللغة العربية من مدرسة الأورمان الثانوية ليجيب لهذا الطالب عن كل أسئلة هذا الامتحان إجابة نموذجية، وأعطاه هو ولجنته وقتا إضافيا بعد انتهاء الوقت الأصلي.

 

نظرت إلى الطالب الذي ينقل منه هذا الطالب الفاشل فوجدته يحل بالخطأ. عند هذا جلست أنا والملاحظ الثاني دون أن نجعل الأمور تتوتر، والغريب أن كل من يأتي إلى هذه اللجنة من مراقبين أو رؤساء أدوار يشكرنا كأننا نقوم بعمل عظيم

لقد كانت تلك رسالة موجهة لكل المدرسين: هذه بلدنا.. وهذا حكمنا.. وما أنتم إلا عاملين عندنا. الموقف الآخر الذي أردت أن أسرده في هذه اللجنة في يوم امتحان مادة الرياضيات، وكان امتحان جبر واحتمالات، ووضعتني السكرتيرة في لجنة وأوصتني بالاهتمام ومساعدة اثنين من الطلاب بداخلها، ومع بداية الامتحان وجدت أحد الطالبين لم يكتب شيئا، تقرّبت منه وأردت مساعدته، فقلت له اكتب: "احتمال اتحاد ألف اتحاد باء" لها قانون أردت أن أذكّره به ليكون مفتاحا للحل، لكن للأسف طالب الثالث الثانوي لا يعرف حتى كتابة الرياضيات وليست عنده فكرة عن الرياضيات أصلا.

 

سبحان الله! كيف أساعد طالبا فاشلا مثل هذا ليحصل على أعلى الدرجات، والعجيب أنه قال لي: "اتركني أنقل من الطالب الذي أمامي فقط"، والعجيب أن الطالب الآخر كان مثل الأول في الجهل وعدم معرفة الرياضيات.

 

وما كان من الملاحظ الثاني الذي معي في اللجنة إلا أن قال: "دع الخلق للخالق.. هو احنا اللي هنغيّر الكون"، ونظرت إلى الطالب الذي ينقل منه هذا الطالب الفاشل فوجدته يحل بالخطأ. عند هذا جلست أنا والملاحظ الثاني دون أن نجعل الأمور تتوتر، والغريب أن كل من يأتي إلى هذه اللجنة من مراقبين أو رؤساء أدوار يشكرنا كأننا نقوم بعمل عظيم، والأغرب أنه في نهاية اليوم وعند الانصراف من اللجنة وجدت هذه السكرتيرة تعطيني ظرفا بسيطا وتطلب مني أن آخذه لأنه حقي. رفضت بكل بساطة فأنا لم أفعل شيئا أستحق عليه مكافأة من أحد، وانصرفت إلى منزلي وأنا حزين في قرارة نفسي. هل هكذا يكون التعليم؟! وهل هؤلاء أمناء على نظام التعليم؟! وإذا كان هذا يتم في قلب العاصمة فكيف يكون نظام الامتحانات في باقي المدن بل وفي القرى والنجوع النائية؟!

 

غش يتم على بعد أمتار من الوزارة وبعلم أعلى المناصب في الوزارة، فلا تسألني عن التعليم، ولا عن جودة التعليم، ولا عن خدمة التعليم للمجتمع. تعليم فاشل لا يخرج إلا طلبة فاشلين هم من سيحكم البلد بعد سنوات قليلة. ويبدو أن هذا هو ما حدث بالفعل! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.