على الصعيد السياسي وعلى مستوى الصراع الوجودي بين أهم كيانين سياسيين في مصر، وهما مؤسسة الحكم العسكرية، وجماعة الإخوان المسلمين، تبقى الثانوية العامة، آخر قلاع الإخوان في مصر، خاصة بعد وقوع جريمة الانقلاب العسكري في يوليو عام 2013م، مصدر من مصادر إزعاج العسكر الذي يود إبادة الإخوان من الوجود واقتلاع جذورهم من المجتمع المدني والمهني خاصة المرموق منه وفق التقسيم الطبقي التعليمي القائم في مصر، للدرجة التي جعلت البعض يتكهن بأن التغيير المرتقب في نظام الثانوية العامة هدفه تجفيف ما تسمى بكليات القمة خاصة العلمية من تسرب عناصر إخوانية إليها من خلال كشف هيئة وتحريات أمنية بعيدا عن فكرة التنسيق القائم على المجموع التراكمي العام والمجرد لكل طالب.
ومن ناحية أخرى تكشف الثانوية العامة للعسكر عن مدى ترابط الأسرة الإخوانية، التي تفقد عائلها ورجلها بالقتل أو الاعتقال أو المطاردة بالداخل والخارج، ولا يمنع هذا من تفوق الأبناء وحصولهم على درجات مرتفعة ومنهم من يفوز بمراتب متقدمة على مستوى أوائل الجمهورية كلها، ومن ناحية ثالثة تكشف على أن أحد أهم عناصر صلابة جماعة الإخوان في مواجهة المحن المختلفة باختلاف درجاتها وأنواعها، هو عنصر زوجة عضو جماعة الإخوان التي تقيم بيته كما لو كان موجودا فيه حتى ولو لم تكن رسميا عضوة في شعبة من شعب الجماعة.
التعليم الجامعي يهدد فلسفة الطاعة العسكرية القائمة على نظام تنفيذ الأمر وإن كان خطأ ومن بعد التنفيذ يكون التظلم منه |
وعلى كل حال تبقى الثانوية عقدة العقد للعسكريين على المستوى الفردي والجماعي وعلى المستوى السياسي والتاريخي، ولجدية ما سبق ذكره حاول من قبل المشير المحبوب عبد الرحيم أبو غزالة التغلب على تلك العقدة الثقافية لدى ضباط الجيش، خاصة بعد انتهاء عهد الحرب، من خلال السماح لكل ضابط عامل تخرج في الكلية الحربية، التقدم للجامعة المدنية وهو في الخدمة، للحصول على بكالوريوس التجارة أو الهندسة، ولكن عند مجيء المشير حسين طنطاوي، لوحظ زيادة نسبة الاستقالة من بين الضباط الذين حصلوا على شهادة جامعية، فتم إلغاء ذلك القرار مع عدم السماح بقبول استقالة الضابط الطبيعية إلا بعد حصوله على رتبة رائد حتى يضمن بذلك استمراره في الخدمة لأكثر من عشر سنوات، لتعود من جديد إلى الأجيال الجديدة منهم ذات العقدة القديمة والتي تخص الثانوية العامة.
وليس لذلك فقط تم إلغاء قرار أبو غزالة ولكنه لوحظ أيضا أن التعليم الجامعي يهدد فلسفة الطاعة العسكرية القائمة على نظام تنفيذ الأمر وإن كان خطأ ومن بعد التنفيذ يكون التظلم منه، حتى ولو كان ذلك الأمر على المستوى الخاص والعام مخالفا للعقيدة أو مقتضيات الوطنية أو للثوابت المجتمعية المتعارف عليها، وما كان من أمر البطل الجامعي سليمان خاطر إلا نموذج لا يريده عسكر عهد ما بعد الحرب أو ما اصطلح البعض على تسميتهم بعسكر كامب ديفيد، وكان البطل سببا من أسباب تجنيد الأميين فقط في سلاح الأمن المركزي، لأن فلسفة الأمن المركزي وهو جهاز شرطي شبه عسكري تقوم على ذات الفلسفة التي تخص الطاعة العمياء التي تتطلب بلا شك قدرا يسيرا من التأهيل الثقافي تكفله فقط الثانوية العامة، وتاريخ الجيش المصري منذ أن أسسه محمد علي باشا لم يكن يضم في أول عهده إلا من في حكم المتسربين من التعليم، الذين كان بعضهم ساقط ابتدائية قبل أن يتم ضمه إلى المدرسة الحربية (1).
وتظهر آثار تلك العقدة الثقافية كما سبق الذكر في الثكنة العسكرية بين المجندين الجامعيين وضباطهم، كما تظهر أيضا في المجتمع ككل في وقت البطش العسكري والصراع من أجل البقاء في الحكم والتحكم إلى الأبد، ففي زمن البطش الناصري ووفق ما ذكر أحد ضحاياه الشيوعيين الأستاذ الهام سيف النصر أن ضباط السجن الحربي كانوا يعاملون من يرتدون "نضارات" طبية ومن يحملون درجة الدكتوراه معاملة خاصة في التنكيل والإهانة، لأنهم كانوا يرونهم في صورة الزعماء المفكرين والمثقفين!(2)،ولهذا كانوا يخشونهم أكثر من غيرهم، ولو كانت نضارتهم الطبية تخص ضعاف النظر جدا والمسماة في القاموس الشعبي المصري بالنضارة (قعركوباية).
وبعد الانقلاب العسكري الغاشم على شرعية ثورة يناير الدستورية ومكتسباتها التي تخص الحرية والإرادة والديمقراطية والحكم المدني فضلا عن المساواة والعدالة الاجتماعية لصالح الشعب على حساب مؤسسات الفئة الممتازة وأهمها المؤسسة العسكرية الحاكمة بالطبع، حينما هجمت قوة شرطية مدعومة بالشرطة العسكرية للقبض على أحد رافضي الانقلاب العسكري، صرح والد ذلك المطارد بأن أحد الضباط صرخ في وجهه عندما قال له :عايزين إيه يا استاذ؟ قائلا له: احنا خلاص لمينا الأساتذة!، حيث أن لقب الأستاذ لما له من دلالة كان ولا يزال وسيبقى يزعج الباشا والكومندان لأنه الذي يعبر عن تلك العقدة الثقافية العتيدة.
وهذه العقدة التعليمية والثقافية تحدث عنها، في لحن القول بالطبع، أحد مؤرخي الجمهورية العسكرية وهو الكاتب والضابط السابق أحمد حمروش، وهو يحاول تبرير عدم وجود للعسكر في مشهد ثورة 1919 الشعبية حيث قال في ذلك "كان الضباط يدخلون المدرسة الحربية بتعليم محدود لا يتجاوز الابتدائية، يمرون خلال مجهر استعمارى خاص يفحص أصولهم الطبقية، وهم كانوا غالبا إما أبناء ضباط معروفين، وإما أبناء أسر إقطاعية أو ثرية فشلوا وعجزوا عن مواصلة التعليم.. وقد أدى ذلك إلى توقف النمو الفكري والثقافي للضباط إلى خلق هوة واسعة بينهم وبين المثقفين الذين انجذبوا إلى حضارة الغرب، ونقلوا الأفكار العصرية مبشرين بمجتمع جديد".
العسكري عندما يتشبع بالثقافة العسكرية أولا لا يستطيع تقبل الثقافة المدنية الجامعية ولا تؤثر فيه على الإطلاق |
وأردف قائلا عن جيل أحمد عرابي ومثقفي عصره: أحمد عرابي وضباط الجيش الوطنيين كانوا أقرب ما يكونون إلى مثقفي عصرهم جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وأديب إسحق وعبد الله النديم ويعقوب صنوع (أبو نضارة) وسليم نقاش وغيرهم.. أما ضباط الجيش عام 1919 م فكانوا أبعد ما يكونون عن مثقفي ذلك العهد… محمد فريد ولطفي السيد وطه حسين (3).
ولكن أحمد حمروش كعادة الكتاب العسكريين يحاول التلميح ولو على استحياء مخالف للحقيقة والتاريخ بأن ضباط انقلاب يوليو كانوا مختلفين عن أولئك الضباط الغير مؤهلين ثقافيا، ولكننا نكتشف بالبحث في ثنايا يوليو أن بعض ضباطها لم يكن يعرف شيء عن أهداف الثورة الستة الشهيرة الا بعد قيامها، والبعض الآخر لم يفهم معناها، ولم يكن من أولئك الثوار أو الانقلابيين على الأرجح سوى شخص واحد مؤهل تأهيل جامعي وهو اللواء محمد نجيب لحصوله على ليسانس وماجستير الحقوق وهو في الخدمة قبل أن يحصل على رتبة النقيب.
ولكن تأهيل محمد نجيب الجامعي أثناء الخدمة لم يغير من تكوينه الثقافي، وهذا ما يجعلنا نقول بأن حصول الضباط على شهادة جامعية أثناء خدمتهم العسكرية لا يحقق ذات النتيجة التي تحققها الجامعة بعد الثانوية العامة مباشرة، لأن العسكري عندما يتشبع بالثقافة العسكرية أولا لا يستطيع تقبل الثقافة المدنية الجامعية ولا تؤثر فيه على الإطلاق، وذلك نجده عند اللواء نجيب الذي كشف عن تلك الفجوة وهو يكتب مذكراته في فترة اعتقاله الطويلة جدا والتي سمحت له على حد قوله من القراءة والاطلاع في مختلف أفرع المعرفة، ولكن رغم ذلك ورغم تأهيله الجامعي أيضا نجده في كتابه السخيف كنت رئيسا لمصر يقول: أن مصر ليست كتركيا، فتركيا لم تحتل من الرومان والفرس والعرب(4).. وهو بهذا وبافتراض حسن النية يعتبر أن الفتح العربي الإسلامي لمصر احتلالا، كما أنه لا يدرك شيء عن تطور نشأة الدولة التركية مقارنة بالدولة المصرية الضاربة في عمق التاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ كتاب تاريخ التعليم الثقافي في مصر للدكتور حسن الفقي.
2ـ كتاب عبد الناصر والشيوعيين للدكتور والمؤرخ الوفدي عبد العظيم رمضان.
3ـ كتاب قصة ثورة 23 يوليو الجزء الأول، أحمد حمروش، مكتبة مدبولى، صـ 80.
4ـ كتاب كنت رئيسا لمصر ـ اللواء محمد نجيب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.