شيءٌ ما دفعني وأنا أقرأ كتاب "العزلة" للإمام أبي سليمان الخطّابي (توفي سنة 388 هـ) إلى تذكّر مرحلة الدراسة الثانوية قبل نحو خمسة عشر عاما، كنتُ حينذاك من المجموعة التي آثرتْ أن تدرس تخصّص الحاسوب مع تخصّص البيولوجيا الرئيسي، وكانت لغة البرمجة التي ندرسها هي "باسكال" (Pascal) بشاشتها الزرقاء. وإنْ كنت الآن لا أكاد أذكر شيئا من تلك اللغة وعُدتُ أميّا فيها بعد انقطاع لعقد ونصف، فإنّ ما أذكره أنّ أي تغيير صغير في كتابة الأوامر، حتى لو كان فراغا زائدا أو نقطة، فإنّه سيؤدي إلى عدم ظهور النتيجة المرجوّة.
حسنًا، ما علاقة كل هذا بكتاب العزلة والخطابي؟
يقول الخطابي في مقدمة كتابه لصديق طلب منه اختصار كتاب "العزلة": "وربّما قيل: إذا كان الأمر كافيًا فالإطناب عيّ. على أنّ للإشباع موضعًا، ولتكرار القول من القلوب في بعض الأمور موقعًا. قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}". انتهى.
بعد قراءة هذا المقطع وهذه الآية الكريمة تذكّرت فورا تلك التوجهات المعاصرة التي تتعامل مع كتاب الله باعتباره كتاب رياضيات، وقد نوّهت على خطأ هذا التعامل في تدوينة "أين أخطأ علماء العقائد المسلمون؟" تحت قاعدة أسميتها "القاعدة الرابعة: لا يُفهم الكتاب والسنة إلا بأساليب العرب في لسانهم، وليس بقواعد الرياضيات والمنطق والفلسفة". وبيّنتُ هناك الفرق بين منطق العربية ومنطق الفلسفة والرياضيات، إلا أنّ الأمر بحاجة إلى مزيد بيان، وإلى الانطلاق من وجهة نظر تأخذ بالحسبان طبيعة النفس الإنسانية، وهو الأمر الذي تغفله تلك التوجهات التي تثير مع الأسف اهتمام بعض الناس في عصر العلوم والتكنولوجيا التي سيطرت على كل شيء وتغوّلت على العلوم الإنسانية وعلى النصوص الدينية، فبات يُنظر للنصّ القرآني وكأنه معادلات رياضية أو لغة برمجة!
لقد توغّل بعض المعاصرين في هذا المسلك، حتى وصف أحدهم القرآنَ بأنه قانون الوجود، وزعم إحكام قوانينه وألفاظه بنفس نمط إحكام قوانين الكون، وتعامل معه آخرون كما لو كان ينطوي على "شيفرات" رقمية ينبغي فكّها! وسنحاول في هذه التدوينة الموجزة أن نبيّن الإشكالية الكبيرة التي يقع فيها مثل هذا الفهم، الذي يُقحم منطق الرياضيات والفيزياء في الخطاب القرآني، غافلا عن طبيعة اللغة العربية وعن طبيعة الإنسان وتفاعل تلك اللغة مع النفس البشرية والسياقات الاجتماعية كما سنبيّن هنا.
من البرمجة إلى الطبيعة: قوانين الجمادات
ثمّة خصائص متفردة للنفس البشرية تنطق بالحقيقة غير المادية للإنسان، ولهذا لم يكن خطاب الله لهذا الإنسان خطابا رقميّا أو رياضيّا أو فلسفيّا حاشاه سبحانه |
ذكرتُ في بداية التدوينة برنامج "باسكال" الحاسوبي، وهو عبارة عن لغة برمجة قديمة غاية في الدقة كجميع لغات البرمجة الحاسوبية، أي لا مجال فيها للزيادة أو النقصان، إذ ثمة سلسلة أوامر مكتوبة بحرفية ودقة متناهية، يؤدي إدخالها في البرنامج إلى نتيجة واحدة لا تتخلّف. والأمر نفسه تقريبًا ينطبق على قوانين الطبيعة، فثمة شروط مختبرية معينة تؤدي إلى تفاعل كيميائي معيّن، وشروط أخرى لانشطار النواة، ودرجة حرارة معينة لغليان الماء. وبناء على هذا النظام المحكم كان بإمكان الإنسان اكتساب العلوم الكونية والتطوير والتحديث فيها؛ إذ لو لا هذا الثبات النسبي في قوانين الكون لَما استقرّت تجربةٌ على نتيجة، ولَما أفضتْ -من ثمّ- إلى تقدّم ممكن. ولهذا كانت الحكمة الربانية في ثبات هذه السنن الكونية، مع وجود عنصر الابتلاء فيما يضمّه هذا الكون من زلازل وكوارث وبراكين وفيضانات وغيرها من الظواهر التي تذكّر بفناء الدنيا، وتتكامل مع منظومة الابتلاء المذكورة في كتاب الله.
وهنا يُطرح السؤال: ما الذي يمنع أن يكون الدين بالنسبة للإنسان بمثابة ذلك القانون المحكم للكون؟
الذي يرى هذا المسلك يُغفل اختلافا جوهريّا بين الكون والإنسان؛ فالكون طائع بأمر الله الكوني وليس مكلّفا ولا يملك حرية اختيار، أمّا الإنسان، فإلى جانب خضوعه لقوانين الكون وشروطه المادية -بيولوجيّا وفيزيائيّا.. إلخ- وعدم تمكّنه من الخروج عن قيدها؛ فله "أمرٌ شرعي" خاص وهو خطاب التكليف من الله العزيز الحكيم. ومن الآيات التي تعبّر عن هذه الثنائية بين الكون والإنسان قوله سبحانه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. فهي تثبتُ الإرادة البشرية الحرّة المكلَّفة (يبغون)، وتثبتُ في مقابلها تسليم مَن في السموات والأرض إلى أمر الله الكوني طوعًا وكرهًا، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. فكلّ ما في الكون من غير الإنس والجنّ طائعٌ لله عزّ وجل وخاضعٌ لأمره الكوني، حتى الملائكة الذين جاء في وصفهم: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. أمّا الإنسان، فهو -إلى جانب خضوعه للشروط المادية في الكون ولقضاء الله- مكلّفٌ بتكاليف تتضمّنها رسالة الوحي، وقد أودع الله فيه إرادةً وحريّة اختيار، وهذا هو الفارق.
وفي إطار هذا التكليف ومضمونه وما يُبنى عليه ثمّة نفس بشرية لها خصائصها المتفرّدة التي تنطق بالحقيقة غير المادية للإنسان، ولهذا لم يكن خطاب الله عزّ وجلّ لهذا الإنسان -الذي هو ليس مادّة فحسب- خطابا رقميّا أو رياضيّا أو فلسفيّا حاشاه سبحانه، بل كان خطاب الله للإنسان هو خطاب هذه الكينونة الإنسانية بكامل خصائصها؛ بغفلتها وسطوة الهوى فيها والشهوات التي في أصل خلقتها، بحزنها وفرحها وقلقها، بإبداعها وفلسفتها وتفاعلها مع الجمال والذكريات، بتشوّفها للمستقبل وخوفها ورجائها ويأسها وتفاؤلها.. إلى آخر الصفات الإنسانية التي لا تتوفّر في مظاهر الطبيعة الأخرى حولنا ناهيك عن برمجيات الحاسوب، ومن ثم لم يكن خطاب القرآن للإنسان كأي خطاب لجماد أو حاسوب.
وحتى ندرك الفرق جيّدا نحتاج أن نفكّك عملية البرمجة في لغة باسكال إلى "مخاطِب" و"مخاطَب" و"خطاب"، وكذلك سنفعل في تكليف الله للإنسان.
إنّ أول فارق يلحظه المرء بين نوعي الخطاب هو أنّ خطاب لغة البرمجة "جبريّ"، بينما خطاب القرآن خطاب تكليفيّ يستهدف حريّة الاختيار التي قدّرها الله للإنسان. ولنفكّر الآن في هذا "المخيَّر" المخاطَب بخطاب القرآن؛ إذ ثمّة عناصر كثيرة تلعب دورا في قبوله للخطاب أو رفضه، فهو معجون بالمشاعر والأفكار والعادات والتقاليد والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية التي تجعل الاختلاف بين كل إنسان مخاطَب وآخر اختلافا بين عالَم وعالَم! أما الحواسيب المخاطبة بأمر لغة البرمجة، فعدا عن السرعة وما شابه من الأمور التقنية، فإنّ لها استجابة واحدة لا تستطيع تخلّفا عنها إلا لعُطلٍ في الجهاز. إنّ هذا الاختلاف بين كلّ إنسان وآخر هو الذي يجعل من الإنسان إنسانًا مكلّفا، ولولا هذا الاختلاف لما كانت هناك قيمة للتكليف، وإلا ستكون استجابة جميع البشر لخطاب الله هي نفس الاستجابة، ممّا سيعيدنا إلى دائرة الجبر، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}.
منطق العربية
وبالعودة إلى كلام الإمام الخطّابي نجده يقول "على أنّ للإشباع موضعًا، ولتكرار القول من القلوب في بعض الأمور موقعًا". إنّ "الإشباع"، كأحد مميّزات منطق العربية، ليس من شأن الحواسيب التي تكتفي باكتمال "الكود" مهما كان قصيرا، ولكنّه موجّه لجَوْعة النفوس البشرية. وكذلك "التكرار"، فليس من شأن من كرّر "الكود" في البرمجة الحاسوبية أن يحصل على النتيجة بشكل أفضل، ولكن من شأن التكرار في العربية أن يوقظ بعض القلوب الغافلة! فهكذا هو منطق العربية، مُنجدلٌ بطبيعة الإنسان ومستجيبٌ لمواقفه النفسية وسياقاته الاجتماعية، وقد قال تعالى منبّها لنا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
لقد وضع أئمة البلاغة يدهم قديمًا على منطق العربية وفصّلوه في كتبهم، فتحدّثوا عن الإيجاز والحذف، وعن الإشباع والتكرار، وعن الالتفات وغير ذلك من الظواهر البلاغية التي لا يمكن تفسيرها بمنطق الرياضيات. بل إنّ ظاهرة لغوية مثل "الالتفات" كافية وحدها في بيان منطق العربية العفويّ، والذي أزعم أنّه ما زال متجذّرا في منطق لهجاتنا المحلية في المنطقة العربية رغم اختلاف الألفاظ والتصاريف والإعراب، فما زلنا "نلتفت" في حواراتنا مع شخص أمامنا مِن خطاب "أنت" إلى خطاب "هو"، مع أنّ المخاطَب ما يزال شاخصًا أمامنا!
وفي هذا الصدد أذكر خطأ أحد أساتذة الجامعات حين حاد عن منطق العربية وأراد تطبيق منطق الرياضيات على كتاب الله، فقال عن قوله تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} إنّ هناك سلبيّين، مما يجعل قوله "ما منعك ألا تسجد" يساوي معنى "سجدتَ"! هكذا قال ذلك الأستاذ، وهو قولُ من لا يفقه منطق العربية الذي جعل "لا" تدخل في الجملة لغلبة أجواء الرفض والإباء على العبارة، فسبقتْ إلى عفوية اللسان، ومن ثمّ تأصّلت كأحد أساليب التعبير العربية. ولقد سألتُ زوجي -حفظها الله- يوما ماذا قال الله لإبليس في هذه الآية؟ فأجابت ببداهةٍ وعفويةٍ بلهجتها الفلسطينية: "شو اللّي مَنَعَكْ مَتُسْجُدِشْ". فمع تغيّر اللفظ والبناء النحوي والصرفي للكلام؛ بقي "منطق العربية" محتفظا ببداهته وعفويّته!
ولعلّ سائلا يسأل: لمن توجّه هذا الكلام؟
إنّ هذا الكلام موجّهٌ إلى من يُبالغون في التماس دقائق الألفاظ ومواقعها وترتيبها، فيخرجون بمعانٍ كثيرة ليدلّوا الناس على إعجاز القرآن. فصحيحٌ أنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، ولكن المبالغة في تتبّع الدقائق في الألفاظ ومواقعها وربط ذلك بالمعنى المراد هو ظاهرة غير سويّة. كذلك الأمر في ما يسمّى بالإعجاز "العددي" أو "الرقمي" في القرآن، فهو يتعامل مع كتاب الله كما لو كان "شيفرة" سرّية ينبغي لنا الكشف عنها بحسابات مطوّلة وتجارب متكررة من الخطأ للعثور على تاريخ بحساب الجمّل تارة، وبعدّ الآيات تارة أخرى، وبعدّ الكلمات ثالثة.. وهي ممارسة أبعد ما تكون عن طبيعة القرآن ومنطق العربية.
دلالة اختلاف القراءات
ومع عميق تقديري للجهود المبذولة في التماس دقائق القرآن وأسباب اختيار الألفاظ ومواقعها، فإنّ المبالغة بهذا المسلك ليست من منطق العربية في شيء، وإنّ من أوضح الأدلّة على خطأ المبالغة في هذا المسلك ما تنطق به القراءات المتواترة من اختلافات دقيقة بين الألفاظ، كالفرق في آية الوضوء بين {وأرجلِكم} و{وأرجلَكم}، وهو فرقٌ أثار بعض النقاش في أوساط المفسّرين، وهو ما يمكن تفسيره في إطار "منظومة الابتلاء" المبثوثة في كتاب الله وفي الكون من حولنا، الابتلاء الذي يترك للإنسان مساحات من التجريب والبذل والمحاولة، ملتمسا الصواب الذي أمر به الله عزّ وجلّ، راجيا السداد منه سبحانه، فليست كلّ الأمور واضحة يسيرة يتفق عليها البشر بسهولة، بل هناك عناصر "الاختبار" و"البحث" و"الكدح" التي يتفاوت البشر في التعاطي معها.

وكذلك الفرق بين {نُنْشِزُها} في قراءات و{نُنْشِرُها} في قراءات أخرى. وكالفرق بين {فَتَبَيّنوا} في قراءات و{فَتَثَبَّتوا} في قراءات أخرى. أو بين {يَقُصُّ} في قراءات و{يَقْضِ} في قراءات أخرى. فهذه الفروق كلّها تبدّد تلك المبالغة العظيمة في إلصاق الدقّة "الرياضية" على ألفاظ القرآن وعباراته، وتحديدا من قبل أولئك الذين يعودون لجذر كل كلمة ليعقدوا لها معنى مختلفا يغيّر معنى الآية كلّه، فهذه كلمات تختلف جذورها في القراءات المختلفة مع بقاء المعنى الإجمالي العام في الآية! وليس هذا عن خطأ في القرآن تعالى الله عن ذلك، وإنّما لكونه قد نزل كما قال سبحانه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}. وقد تفطّن الإمام الشاطبي لهذه الحقيقة في كتابه الرائع "الموافقات"، فقرّر "أنّه لا بد في فهم الشريعة من اتّباع معهود الأميّين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإنْ كان للعرب في لسانهم عُرفٌ مستمرّ، فلا يصحّ العدول عنه في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثمّ عُرف فلا يصحّ أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه".
وبيّن الشاطبي في كتابه "أنّ معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبُّدا عند محافظتها على المعاني، وإنْ كانت تراعيها أيضا". وطرح من أدلّة ذلك أنّ من شأن العرب "الاستغناء ببعض الألفاظ عمّا يرادفها أو يقاربها ولا يعدّ ذلك اختلافا ولا اضطرابا، إذا كان المعنى المقصود على استقامة. والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ". وقال إنّ أهل القراءات استمرّوا على العمل بما صحّ عندهم من روايات مما وافق المصحف، وهم بذلك قارئون للقرآن من غير شكّ ولا إشكال وإن كان بين القراءتين -كما يقول- "ما يعدّه الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى؛ لأنّ معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب". وطرح أمثلة لذلك منها الفرق بين {لَنُبوّئَنَّهُم مِنَ الجنّةِ غُرَفا} و{لَنُثْوِيَنَّهُم مِنَ الجنّةِ غُرَفا}. ثم قال "لأنّ جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب".
إنّ كتاب الله نزل بلسان العرب فهو على نظام هذا اللسان ومعهودهم فيه، وإنّ ما جاء به بعض الباحثين من التكلّف في تتبّع الفروق بين الحروف والكلمات هو ممّا لم تعرفه العرب |
ثم ينقل الشاطبي ما حكاه ابن جني في ذلك عمّن سمع ذا الرمّة ينشد: "وظاهرْ لها من يابسِ الشخثِ واستعنِ". فقال لذي الرمّة: "أنشدتَني (من بائس)، فقال: (يابس) و(بائس) واحد. ويعلّق الشاطبي قائلا: "فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لمّا كان معنى البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلا الطريقتين". ثم يحكي إنشاد ابن الأعرابي مرّة "ضيق" ومرّة "زير"، فلما أنكر عليه أحد أصحابه بيّن أنّ الزير والضيق واحد. مع تأكيد الشاطبي أنّ العرب "كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص، بحيث يعدّ مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا، إلا في مواضع مخصوصة". ولهذا فنحن هنا إنّما نذمّ المبالغة في هذا المسلك ولا ننفي وجود الفروق بين الألفاظ ومواضع استعمالها.
وأخيرا، يؤكّد الشاطبي على "أنّ الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدًا عن تكلّف الاصطناع". ثم يقول بعد كلام: "وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلّم في كتاب الله أو سنّة رسول الله أن يتكلّف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب. وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدّتْهُ". ويرى "أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم بناءً على أنّ العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضا كلّ المعاني؛ فإنّ المعنى الإفرادي قد لا يُعبأ به إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا دونه، كما لم يعبأ ذو الرمّة "ببائس" ولا "يابس" اتّكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم".
ومن أراد التوسّع فليقرأ كلام الشاطبي في "كتاب المقاصد" في "الموافقات"، فقد أشبع المسألة بيانًا ووفّاها حقّها بما يضيق المقام هنا عن نقله، ولكن الخلاصة أنّ كتاب الله نزل بلسان العرب فهو على نظام هذا اللسان ومعهودهم فيه، وأنّ ما جاء به بعض الباحثين المعاصرين من التكلّف في تتبّع الفروق بين الحروف والكلمات ودور ذلك في المعاني هو ممّا لم تعرفه العرب.