قبل إحدى وخمسين سنة تقدم "سيد قطب" ساكنا راضيا، تعلوه آيات البشر، ويزينه وقار الثقة وجلال العزة، وتحيط به هالة الكبرياء والاستعلاء، ومن فوقه التتويج الأكبر، ومن حواليه يد الله الخفية التي تدنيه من مشهد الكرامة، وترسل له أقباس التأييد، وتغشيه أمنة ونصرا، وتريه صغار العتاة المتجبرين، وذلة الطغاة المعاندين.. تقدم مرفوع الرأس شامخ المحيا، فتلقاه الواعظ المسجون في أوهامه يزعم عند نفسه أنه يلقنه كلمة "الشهادة" العظمى، وفاته أن "سيدا" يجود بأعز وأحب ما عند كل حي، إنه يهب روحه التي بين جنبيه من أجل هذه الكلمة التي عاش لأجلها، وضحى في سبيلها، وهو الآن يسلم رقبته لحبل المشنقة لتكون كلمة الله هي العليا.. ولكن أنى للعبيد الذين يتجرعون غصص وآلام الخنوع معرفة ذلك؟
قضى "سيد" ومن خلفه آلاف الأحرار يتحسرون، ويألمون لفراقه ووداعه، وليس فيهم من أحد إلا تلا شذرة مباركة من شذراته، أو قرأ توقيعا حرا من توقيعاته، أو آنس سرورا وبهجة وهو يستظل بظلاله، أو هتف وكبر عاليا وهو يرتشف قبسا من معالمه، أو خشع وسكن وهو يتدبر مشاهده، أو رجا وأمل فتحا وفرجا وهو يتأمل تحفته "المستقبل لهذا الدين"، أو اهتدى إلى درب النجاة، وعرف المفاصلة كما شرحها في خصائصه.. وله في كل زاوية من الأرض ألسن تلهج بشموخه واستعلائه، وتردد كلماته وعرائس شمعه التي أحياها بدمه الطاهر، وتترنم بأشعاره التي صارت نشيدا للغرباء، وألحانا يتعزى بها أهل البلاء، وأورادا يعتكف عليها المضطهدون في الأحباس المعتمة.
وكلما لاحت المحن وتجددت الفتن، ولوح الطغاة بالعذاب، تذكر الناس ثبات "سيد"، واسترجعوا أن قائدا منهم استقبل الموت باسما ضاحكا، وأنه لم يرض أن يسترحم الباطل ولو بكلمة، ولم "يعتذر عن العمل مع الله"، وأن ختام ذلك الثبات جسده في قوله "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية".. حرفا واحدا فما بال أولئك الذين لا يشفقون على محابرهم أن تكتب المئات والآلاف في تزكية وتمجيد "الغلمان السفهاء" وليس فيهم ذرة فحولة بل على محياهم رهق الشرور وفي قلوبهم أوزار كل القبيلة؟
أما خاصية "سيد" التي بز بها أقرانه، وصرع بها العبيد في كل قطعة من الأرض، واستنار بها تاريخه، وعلا بها ذكره، وصار بسببها أيقونة التضحية.. إنه "الاستعلاء" الذي كتبه بالدم الأحمر القاني، ورسمه بمزعه وأطراف بدنه المتهالك النحيل، وتوج جميع ذلك بلقب الشهيد و"هو من شهد أن شرع الله أغلى من حياته" وهو تعريف سنظل ننظر إليه ثم نطأطئ ولا نكاد نجهر به، أو نتفاخر به كما نفعل بشعارات الحملات الانتخابية، والدعايات الرخيصة التي يوقظها الفراغ، وتسكتها التخمة والأعلاف.
أما أن "سيدا" كان واحدا من البشر يجري على لسانه الخطأ، ويسبقه قلمه السيال بسبب عاطفة مشبوبة، وتحمله حرارة الداعية على انفعال هنا أو هناك، أو يغلبه الشوق والآمال فتكون منه بعض الجرأة أو بعض القسوة، أو تشتد عليه المحن، وترهقه العذابات فينبو ببعض الهنات، أو تستدرجه عواتي الباطل وهجماته فيرسل شواظا ونارا.. كل ذلك كائن عنده وعند من هو أفضل منه حالا وعلما، ولكن "سيدا" عاش رجلا يتفيأ ظلال الرجولة، ومات "شهيدا عزيزا سعيدا" إن شاء الله.
وذلك هو العز الذي لا يبلغه أهل الهوان الذين يتساقطون على بعض "خطئه" تساقط الذباب على البقايا، يسطرون الأوراق قدحا، ويملأون الفضاء صياحا، ويتلفون أعمارهم وعقولهم -إن كانت لهم عقول-يتصيدون الأوهام، يتزلفون بها إلى أعدائه وخصومه في كل مكان وكل زمان، وليس له من عدو على الحقيقة إلا تلك الفئة التي تريد أن تستعبد الجماهير، وتحيلها متاعا من أمتعتها، وقطيعا تسوقه إلى فتاتها، ورهائن تعدهم وتمنيهم شيئا زهيدا من أطعمتها وأشربتها، وتدفع إليهم الشهوات القاتلة، والشبهات المسمومة، وتجمعهم في الحظائر تائهين لاهين، هؤلاء هم من تذيقهم ذكرى "شهيد القرآن" مرارات لا يطيقونها، وتحصي عليهم الجرائم التي يؤملون نسيانها، وتبعث في قلوب الأجيال أحلاما ظن الطغاة أنها ماتت أو كادت أن تموت .
كلما حلت ذكراه، وتعطرت المجالس بسيرته ومآثره، وتلقى الصغار ثباته وقصة خلوده، وتبادل الورثة وصاياه وكلماته.. كلما انهد ركن لجبابرة الأرض، وتهاوت لهم أعمدة طالما أعملوا فيها الباطل، وخفت صوت أشياعهم من باعة الكلمات، وأكلة الدنيا بالدين.. وتجدد بين الناس حديث الصراع الذي لا يهدأ.. صراع الحق والباطل. تقبل الله "سيدا" في الشهداء، وسلام على تلك الروح التي حلقت ورفرفت، وتزينت بجلال الاستعلاء، وجمال الثبات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.