في البداية سيعتقد البعض أني أُشعِلُ صراعاً بين الأجيال، ولكن في الحقيقة الإنسان هو نفسه، لكن الظروف تتغير، فالصراع ليس بين الأجيال إنما مع التطور المتسارع للحضارة التي تفقدنا كثيرا من القيم الإنسانية يوماً بعد يوم.
التعليم الممتاز يفترض أن يكون التعليم الذي نقبله لأبنائنا، وهذا شيء طبيعي وحق للجميع، للفقير والغني، إن كانت مدرسة أو جامعة خاصة أم حكومية. التعليم الممتاز للجميع وتوفيره واجب على الجميع، من حكومات وعاملين في مجال التدريس. من خبراء وإداريين ومعلمين، كلهم على حد سواء يجب عليهم أن يقدموا أفضل ما لديهم لخدمة أبنائنا وإعداد جيل قادر على مواكبة تطورات العصر وخوض غمار التنافس العالمي.
التعليم الممتاز هو التعليم الذي يقدم للطلبة التعليم الأفضل على المستوى الأكاديمي والخدماتي. يحتاج الطالب أن يحصل على المعرفة التي تناسب مرحلته بأفضل الطرق المتاحة. وعلى المعلم أن يقدم كل ما لديه حتى يوصل خبرته وعلمه لتلاميذه، وتقع عليه مسؤولية تربوية عظيمة وسامية. المعلم هو المحرك الرئيسي للعملية التعليمية التي لا يمكن أن تعمل من غيره.
النظرة للتعليم الممتاز يساء استخدامها من قبل مؤسسات تعليمية هدفها ربحيٌ بالدرجة الأولى والأخيرة. السعي خلف المكسب المادي يكون واضحاً في النظر إلى عظم الأرباح التي تجنى من أجل أشخاص معينين أو مؤسسات معينه. عندما تكون الأرباح بالملايين يصبح التعليم مكسبا أفضل من آبار النفط والغاز. لا أعلم كيف يكون التعليم ممتازاً عندما يتقاضى المدير الآلاف ويأخذ المعلم بضع مئات. أو عندما تزداد الرسوم المدرسية ولكن بالمقابل تبقى الخدمات المقدمة للطلبة كما هي وحتى رواتب الموظفين كما هي. عدم التوازن بين ما يأخذ وما يقدم يطرح في قلوبنا شكوكا كثيرة وتساؤلات حول ما بقي من التعليم ومبادئه وأخلاقه.
لا أستطيع أن أفهم كيف لا يستطيع أن يقوم المعلم بتدريس أبنائه في نفس المدرسة التي يعمل بها لأنه غير قادر على دفع رسومها العالية حتى بعد الخصم! ترفع كثير من المدارس شعارات مثل "الطالب أولاً" ثم يمنع الطالب من حضور الحصة الدراسية لأن والده تأخر في دفع الرسوم المدرسية. هل هذا هو التعليم الممتاز الذي نريد؟!
هل يعقل أن يكون التعليم ممتازاً في مدارس هي "مضبة" للطلبة أكثر من كونها مؤسسة تعليمية، عندما يمضي الطالب جُلَّ نهاره في المدرسة ولا يتبقى من يومه شيء ليرى الدنيا أو يعيش طفولته بشكلها الطبيعي. أوقات دوامٍ تزدادُ مع تزايد ضغوطات الحياة، المدرسة الممتازة هي التي تُبقِي الطلبة أكبر وقت ممكن بين جدرانها حتى يصبح الطفل يلعن اليوم الذي جاء فيه إلى المدرسة مع كل صباح تُكسَرُ فيه ألذ لحظات راحته. كل هذا تماشياً مع أوقات العمل الطويلة التي يمضيها الأهل بعيداً عن أطفالهم طلباً لمزيد من المال، هنا يصبح الوالدان شريكان في الجريمة بإهمال أبنائهم سعياً خلف حطام الحياة.
لا نقبل أن تعجَّ الصفوف بالطلبة حتى لا تكاد الفصول لا تطاق وتضيق بالمعلم والطالب. ثم يأتي بعد كل هذا "أبواق التنظير" ينادون بتطبيق استراتيجيات التعلم |
إن "الأهل" يتعبون ويكدون ثم يدفعون ولكنهم بالمقابل لا يجنون، فقد أضاعوا أبناءهم بين جدران التوحد وشباكٍ الأمراض النفسية المتنوعة. وما نراه في المدارس أكبر دليل على هذا. فالطلبة الذين يعانون من حالات خاصة يزدادون وتزداد معهم الأسباب والأعذار.
أغلب من يرفعون شعار" التعليم الممتاز" هم مغمورون يسعون للظهور من أجل أن جمع أموال من ضعفاء القوم. معاهد اللغات أو تطوير الذات التي ترفع شعارات التعليم الممتاز كما يدعون ليست سوى أضواء لجذب من ضاعوا في صحراء الحياة وعثرات الزمن.
تعتمد المؤسسات التعليمية على مدير فاشل اجتماعياً مكروه بين أقرانه وأناني ومغرور لا يحب سوى منصبه الذي يبيع زملاءه من أجل نفسه، أو مدرس يحرث من الصباح الباكر حتى يرحل آخر طالب، يعمل مدرساً أمام الناس ولكنه في المدرسة تجده كالأخطبوط بثمانية أذرع أو حتى أكثر، تجده تارة بوابا يحرس باب المدرسة أو مناوبة في ساحات المدرسة أو مدخل بيانات أو مراقبا أو مربيا أو معلم أشغال أو قاضيا أو كنترول باص أو "داده" للأولاد أو منظما للطوابير عند مقصف المدرسة أو منظما للرحلات المدرسية ويتحمل مسؤولية الطلبة خارج المدرسة، ثم وأخيرا معلما وتربويا "فاضلا". هذا ما تريده المعاهد والمدارس من العاملين. المثل يقول تعددت الأسباب والموت واحد.
لا ننسى أن العنصر البشري الهام في التعليم هو "الطالب"، كما هو عند دعاة التميز، لذا يجب أن تجمع أكبر قدر منه، فالطالب يعني النقود. لذلك تفتتح الصفوف العشوائية وتقسم القاعة إلى اثنتين ثم تأخذ غرف المعلمين أو المكتبة أو المختبرات ويحل مكانهم صفوف. تُملأ بالأموال -أقصد الطلبة- ليس هذا عيب أو حرام أو مرفوض، لكن ما لا نقبله أن تعجَّ الصفوف بالطلبة لتصبح الفصول لا تطاق وتضيق بالمعلم والطالب. ثم يأتي بعد كل هذا "أبواق التنظير" ينادون بتطبيق استراتيجيات التعلم وطرق التدريس التي يجهلون كيفية تطبيقها عند الغرب؛ فضلاً أن تطبق في عشوائياتنا. عدم المنطقية والاتزان مشاكلٌ حلولها صعبة في عقلية عربية آثرت المال على قيمنا وديننا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.